قلت نهاية الموضوع السابق أن خطورة المعرفة القادمة من مجتمعات معرفية إلى مجتمعات غير معرفية تكمن في أربعة جوانب هي:
1- جاذبية المغلوب لكل ما يتعلق بالغالب، وتلك الجاذبية تسمح للمغلوب من تصديق ما يُصدّر إليه هذا التفويض المطلق للتصديق قد يُخبئ الاحتيال والكذب والتزوير والتلفيق والإدعاء، كما أن التفويض المطلق للتصديق يمنع «المستقبِل السلبي» للمنظومة المعلوماتية عن البحث التوثيقيّ لكل ما يُصدر إليه من المجتمع المعرفي.
وفي عدمية البحث التوثيقي عن حقيقة المعلومة والانقياد الأعمى خلفها من خلال تفويضيّة التصديق، يبني الأفراد اتجاهات فكرية وعقائدية تٌروّج لأيديولوجية المنظومة المعلوماتية الصادرة من المجتمع المعرفي وهو ما يهدد أصالة الأفراد. كما أنهما- عدمية البحث التوثيقي عن حقيقة المعلومة والانقياد الأعمى خلفها من خلال تفويضيّة التصديق - يدفعان الأفراد إلى إنتاج علاقات ومواقف تضرّ بسلامة وأمن المجتمع، إضافة إلى انسلاخ الأفراد من صوف الهوية الجمعية والاندماج مع هوية ذات صفة شمولية أُطلق عليها ثقافية «العولمة».
2- طبيعة المستقبِل السلبي، غالبا مستهلك المنظومة المعلوماتية القادمة من مجتمعات المعرفة من المجتمعات ذات السلطة الاستبدادية التي تقوم هيمنتها على الرقابة البوليسية والحجب الصارم والمنع العنيف، والسلطة الاستبدادية عادة لا تخلق لدى أفرادها فكراً نقدياً إنما فكراً تطرفياً، وهذا الفكر آحادي الاتجاه صارم الحذف والإبدال، وتلك الصرامة مولدة للعصيان والعنف والانقلاب الثقافي على هوية الجماعة.
3- المستقبِل السلبي للمنظومة المعلوماتية الواردة أكثر قدرة على تمثيل وترويج وتسويق الاتجاهات الفكرية والشكلانية لمُورّد الأيديولوجية المعرفية.
4- المستقبِل السلبي هو دائماً مرشح محتمل لجاسوسية معرفية.
5- المنظومة المعلوماتية الصادرة عن المجتمعات المعرفية هي دائما ممثلة لنمذّجة أعلوية لتلك المجتمعات، وداعمة لقوة تفوقها وهو ما يهدد القيمة الخاصة لذات المستقبِل السلبي ويٌسّهل تذويبه في نمذجة المجتمع المعرفي الوارد باعتباره ممثل لكمال القوة والهيمنة، وهنا نعود إلى فاتحة هذا المحور إن الضعيف يحتاج إلى القوة أو ما يُشعره بإحساس القوة؛ لإزاحة الألم عبر نموذج تعويض مثالي المواصفات.
6- إن ثورة المجتمع المعرفي جرّدت الحقيقة من خاصية ثبات الجوهر، ليُصبح الحاصل هو الحقيقة التي تفرضه قوة المعرفة.
7- إن التحول إلى مجتمع معرفي كما قلت سابقا هو امتلاك المجتمع القدرة على نشر المعرفة وإنتاجها وتوظيفها؛ وهنا تكمن استعمارية المعرفة في «إنتاج المعرفة وتوظيفها»؛ لأن من خلالهما يتسرب الاحتيال والتلفيق والإدعاء، وكما ذكرت ليس هناك معرفة مُفرّغة من أيديولوجية قصدية تسعى لفرض هيمنتها على مستهلكيها لجذبهم إليها، وذلك الجذب يحقق لها مكاسب اقتصادية وسياسية وثقافية، ولذلك عدّ بعض المفكرين العولمة مجتمعا معرفيا يحمل في طياته امبريالية جديدة. إن من يتحكم في إنتاج المعرفة وتوظيفها هو من يحكم عقول الشعوب المغلوبة والضعيفة التي قهرها الفقر والأمية والبطالة وسوء التعليم كماً وكيفاً، ولذا فالغاية تغلب حسن النية ها هنا.
المبدأ العام لتمثيل تكيّف الذات مع واقعها المرفوض يعتمد على «هروب النفس الإنسانية» من كل ما يُشعرها بالألم والضعف والمهانة، كما أن خجلها من كشف نقاط ضعفها أمام ذاتها يجعلها تقوم «بحيل دفاعية» من خلال اختيار نموذج تعويضي بصفات مخصوصة تعّوض عقدة النقص عند الذات من خلال الاختباء داخل ذلك النموذج التعويضي، ويتحدد نوع النموذج التعويضي من خلال ما تريد الذات تعويض نقصه أو تبديله، فالذات المضطهدة ستلجأ بالاختباء داخل نموذج الشخصية العنيفة، والذات الضعيفة ستلجأ بالاختباء داخل الشخصية البطلة، وهكذا يستمر اختيار الذات للنموذج التعويضي الاختبائيّ وفق ما ينقصها أو ما يُشعرها بالألم.
إن ما تُصدره المجتمعات المعرفية من منظومات معلوماتية للمجتمعات غير معرفية أو «المجتمعات المستهلِكة لتلك المعلومات» لاشك أنها تحظى بمواصفات انتقائية داعمة لكمال القوة والبطولة والحضارة، وتلك المواصفات هي التي تجذب المستقبل السلبيّ وتغريه لاختيارها لتصميم النموذج التعويضي للاختباء داخله.
وقصدية الإغراء التعويضي يُمكن أن نجمل أخطارها فيما يأتي:
1- تعطيل قدرة المجتمعات المستهلِكة لتلك المنظومات عن إنتاج المعرفة.
2- تهديد اصالة الفرد بالتذويب داخل نمذجة خاصة مستوردة تمثل قيمة الكمال بالقوة والقدرة؛ لتحصيل إزاحة تامة لمصدر الألم والضعف والنقص.
3- إعادة إنتاج النموذج المثالي المستورد من وجهة نظر المستقبِل السلبي، وهو ما يعني تجريفا لهوية الفرد.
4- التصديق المطلق لقاعدة بيانات تلك المنظومات المعلوماتية، وخاصة بعد دخول الصورة كمثبّت توثيقي لِمّورِد تلك المنظومات المعلوماتية لتأكيد مطلق صدقيتها. ولابد هنا أن نركز على «سلطة الصورة» لنجاح العمليات التعويضيّة.
لم تعدّ المعلومة كقالب لفظي أو رقميّ مع تطور الأبعاد البصرية هي القائم الحصري بصناعة العقيدة المعرفية، إنما أصبحت تتشارك الصورة معها في تلك الصناعة وأحيانا تتفوق عليها. لأن المعلومة تحتاج إلى معالجة للمقاربة والاقتران لتتحول إلى معرفة، لكن الصورة هي إطار تعبيريّ متكامل وبذلك فهي معرفة في ذاتها كما أنها حامل ضمني مستقل لإمكانية المقاربة والاقتران، مما حوّلها إلى ثقافة مستقلة.
لقد كان في بدايات تاريخ مجتمع المعرفة من يُنتج المعلومات يصنع عقيدة المعرفة، ثم أصبح من يملك القدرة على إنتاج الصورة يملك القدرة على صناعة المعرفة.
لقد أصبحت الصورة بعد اكتشاف السينما ثم التلفاز ثم الثورة الاتصالية عبر الفضائيات ومواقع التواصل الإنترنت وتويتر والانستقرام وتطور الأجهزة الذكية التي أصبحت تملك استطاعة التوثيق والتصدير المباشرين هي المتحكمة في معايير تصدقية المتلقي أو شكيّته أو يقينه، أو صاحب سلطة تشكيل قاعدة الحقيقة.
وخصائص الصورة هي التي مكنّتها من تولي سلطة التأثير وصناعة العقيدة المعرفية وتشكيل اعتقاد المرء أو تفكيك اعتقاد مسبق، باعتبار الصورة قرينة، وحجة إثبات وموجزة لحكم متفق عليه مما يطبعها بهوية عالمية، كما أنها تتجاوز عوائق الأمية والفقر فهي متاحة للجميع.
نعم إن للصورة تأثير عظيم على قيادة أحكام الفرد والجماعة، إن صورة خالد سعيد هي التي أشعلت الثورة المصرية، وصورة بوعزيز وهو يحترق هي التي اشعلت الثورة التونسية، وصور سجن أبو غريب هي التي حركت منظمات حقوق الإنسان.
إن صورة المسلم الملتحي والمرأة المنقبة هي من كونت رابط اعتقادي قائم على المقاربة والاقتران في الذهنية الأمريكية والغربية بالتطرف والإرهاب.
وكما أن المعلومة تدور في فلك أيديولوجي، فالصورة أيضا لا تخلو من تلك الأيديولوجية. وتُروّج الصورة أيديولوجيتها من خلال السينما، وبرامج التلفاز.
لا شك أن ظهور السينما والتلفاز فيما بعد أحدث ثورة كبيرة في مجال الصورة، ومن هنا استطاعت كل منهما من التحكم في إنشاء معتقدات الأفراد والجماعات؛ لأنهما ناقلان لثقافة تعبيرية عن الواقع وصراعاته، ولأنهما صورة جميلة وقبيحة للحياة، ولأنهما حاملان للنماذج التعويضية التي تٌقدم للأفراد حيلة الاختباء وطريقة التعويض.
وسلطة الصورة من خلال السينما والتلفاز لا تكتفي بتقديم نماذج تعويض الاختباء، بل وتقديم نماذج لتعطيل العقل النقدي لدى الفرد والجماعات.
لقد أصبح العالم اليوم مقسوما إلى قسمين، قسم صانع للصورة وهذا القسم هو من يتحكم في عقيدة المعرفة.
وقسم مُستهلِك للصورة وهذا القسم وهو بكل تأكيد الأضعف الذي لا يملك إلا اقتناء العقيدة المعرفية للصورة المفروضة عليه من فاعل هذه الصناعة، وهنا نجد أنفسنا أمام صورة من صور الاستعمار الخفي.
- جدة