تتكون القبيلة من مجموعة من الأسر التي تربطها رابطة الدم ويُضاف إليها رابطة الجوار ورابطة الحلف في كثر من الأحيان، ويعتبر المجتمع العربي خصوصاً في الجزيرة العربية مجتمعا قبلياً، في حين ذابت أو كادت تذوب القبائل خارج الجزيرة العربية في التنظيم الحديث للمدينة أو في الدولة الحديثة التي تحتكر وحدها رخصة القيام بالعنف المشرعن.
فهل يمكن عد القبيلة مؤسسة من مؤسسات المجتمع المدني؟ وكيف يمكن تحليل خطاب أفراد القبائل، ونظرتهم إلى قبائلهم أو إلى القبائل الأخرى، ونظرتهم إلى المدينة، ونظرتهم إلى الدولة، ونظرتهم إلى العلاقات الدولية، وإلى الدول الكبرى التي تنتظم في هيئات دولية.
إن خطاب أفراد تلك القبائل متفرق في الوسائط الاجتماعية وفي الأدب العامي، وهو في الغالب خطاب ينظر إلى القبيلة بوصفها تمتاز بصفات أولها الشجاعة وثانيها الكرم، وهي تحاول أن تنتقص من القبائل الأخرى حينما تقارن نفسها في هاتين الصفتين بتلك القبائل، وينشأ عن هذا الانتقاص ظهور العنصرية كخطاب يعد متلازمة في الغالب من متلازمة الخطاب القبلي، بحيث يقصى بعض الأفراد لأنهم من قبائل أخرى أو لأنهم أقل شأناً من أعيان القبيلة أو لأنهم من فئات اجتماعية مهمشة تلحق بالقبائل، كما تعالى أصوات الفخر ببعض الأعلام التي تنتمي للقبيلة ويجري الإشادة بها والترويج لها وكأنها إنما تميزت لكونها تجري فيها دماء القبيلة.. وليس من مهمة هذا المقال البحث حول العنصرية فهي من مهيمنات الخطاب الاجتماعي التي تنتظر بحثها بعمق...
والقبيلة في الغالب تنتظر إلى حياة المدنية نظرة احتقار وازدراء وصارت العبارتين المشهورتين التي يرددها بعض أفراد القبائل (إحضري وأنتم كرامة) تعادل (مرة وأنتم كرامة) أي أنهم ينظرون إلى حياة المدينة مثل الأنثى هي مجرد آلة يستفاد منها، وهي في الوقت نفسها ضعيفة تفتقد القدرة عن الدفاع عن نفسها وهي ناقصة عن الرجل القبلي، وهذه عنصرية أخرى تجري في الدم القبلي وهي عنصرية تجعله بعيداً عن الحياة المدنية غير متقبل لها إلا كرها على كره، يتحين اللحظات ليتحقق في فصاله عنها بأية طريقة من الطرق، بل إنه يردد هذه العبارات وقد تحول إلى الحياة الحضرية مثله مثل غيره ؛ إذ إن الارتحال والانتقال قد توقفا بشكل شبه تام.
أما الدولة باحتكارها القوة والعنف ؛ فالقبيلة منذ الجاهلية اعتبرتها كياناً لا تستطيع الوقوف ضده فهذا دريد بن الصمة يحذر قومه من الوقوف ضد الملوك.. ولذا لم تستطع القبيلة إلا الوقوف من الدولة موقف المهادنة ؛ أو اعتبارها بشكل أو بآخر تمثيلا لها بإرجاعها إلى كونها ممثلا أو حاميا للحياة القبيلة، وأنها إنما خرجت من رحم القبيلة أو رحم العصبية ولولا ذاك ما وصلت إلى قوتها، وتقوم الدول ذات التركيبية السكانية التي تحتوي على مكونات قبيلية بالتعامل مع القبائل في إطار فهم تلك القبائل للحياة وإبقاء كل شيء على ما هو عليه..
أما نظرة القبيلة إلى العالم أو إلى العلاقات الدولية فهي نظرة غير مكترثة أو لا تريد أن تفكر في غالب الأمر في تعقيداتها، وترد في نهاية الأمر إلى الطريقة القبلية في الحكم على الأمور انطلاقا من ذاتية القبيلة وتجاهل كل المنطق بل كل الحياة سوى منطق القبيلة وحياتها...
من كل ذلك يتضح أن وضع القبيلة هو وضع مضطرب أو على الأقل غير واضح ضمن المجتمع الحديث ولكن ثمة من يذهب إلى أن القبيلة يمكن أن تكون مؤسسة من مؤسسات المجتمع المدني. فهل ذلك صحيح؟
يرى محمد عابد الجابري أنه لو صح الاختلاف حول مفهوم المجتمع المدني فإن الشيء لا يمكن الخلاف حوله أن المفهوم يشير إلى مجتمع المدن من خلال المؤسسات التي ينشئها الناس بينهم لتنظيم حياته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، فهي مؤسسات إرادية أو شبه إرادية يقيمها الناس وينخرطون فيها على النقيض تماما من مؤسسات المجتمع البدوي القروي التقليدي التي هي مؤسسات طبيعية يولد الفرد منتميا إليها مندمجا فيها ولا يستطيع الانسحاب منها مثل الطائفة والقبيلة، ولذا فإن القبيلة لا يمكن أن تكون مؤسسة من مؤسسات المجتمع المدني، في حين يرى عزمي بشارة أن الجابري أخطأ في ترجمة ( civil socity ) إلى مجتمع مدني لأن الجذر اللاتيني (civis) مشتق من لفظ مواطن لذا من المفترض أن تكون الترجمة ( مجتمع المواطنة )، وأيا ما كان الأمر فإن تحليل الجابري كان منطلقا من التمييز الذي أقامه فردناند توني بين المجتمع والجماعة كما يقول د. فوزي بوخريص، وعلى أية حال فالمفهوم مفهوم غربي ارتبط بتطورات مفهوم الدولة في الغرب والإيديولوجيات التي قامت عليها، وقد اكتسب المجتمع المدني معناه التأسيسي من خلال تقابله مع مفهوم الدولة منذ فترة مبكرة في بداية القرن التاسع عشر في أوروبا ويمثل المجتمع المدني لدى هيجل في مبادئ فلسفة الحق اللحظة الثانية ضمن اللحظات الثلاث المشكلة للحياة الإخلاقية وهي لحظة وسيطة بين لحظتي الأسرة والدولة... وقد تواصل كثير من الفلاسفة الغربيين في دراسة هذا المفهوم كسبينوزا وروسو وكانت وفيبر وغيرهم، ثم اكتسب المفهوم تمييزا تطوريا من خلال الاتجاهين الفكريين الأساسين الليبرالية والماركسية، ولن يتمادى المقال في شرح المفهوم في كلا الاتجاهيين، ولكن مؤسسات المجتمع المدني التي يشير عبدالإله بلقزيز إلى أن بعض الكتابات المشرقية كانت تترجم المصطلح ( مجتمع مدني) بالمجتمع الأهلي هي مؤسسات تضامنية يجنح المجتمع إلى تأليفها وتكون وظيفتها في الغالب وظيفة دفاعية يؤمن بها المجتمع القدر الضروري من استقلاله في مواجهة فاعلية التدخل السياسي والاجتماعي للدولة أو السلطة المركزية وقد أشرك بلقزيز القبيلة والعشيرة والطائفة والمذهب ولكن تحت مسمى بنى المجتمع الأهلي، وجعل الاتحادات والنقابات تحت مسمى المجتمع المدني، وأكد بلقزيز أنه يمكن للقبيلة أن تؤدي بكفاءة وظيفة امتصاص مشاكل الفرد المنتسب إليها وتؤمن له الحماية الضرورية من غالة السلطة ـ ولكن القبيلة ذات بنية سلطوية يستأثر فيها فرد بسلطة ما وتضامنها هو تضامن عصبوي قائم على علاقة النسب الدموي أو الولاء الرمزي للفرد أو للجماعة الروحية في الطائفة فضلا على أنه تضامن ينطوي على تضاد مادي صارخ في شروط المعاش وتدبير الثروة والسلطة ؛ لذا فالمجتمع الأهلي بما فيه القبيلة يتجه تضامنه الموروث إلى إعادة إنتاج العلاقة السلطوية في حين يتجه التضامن المدني الحديث إلى إرساء نفسه على العلاقة الديمقراطية، وهنا لا يمكن بحسب بلقزيز أن تكون القبيلة ضمن مؤسسات المجتمع المدني بل يمكن أن تكون عائقاً عند البعض أمام تشكل مؤسسات المجتمع المدني
ويرى طاهر إبراهيم اللايذ في كتابه المجتمع المدني والعصبية القبلية الذي درس فيه العشائر العراقية أن العشيرة هي أقرب إلى وحدات الدفاع الذاتي وطبيعة مهماتها تجعلها ذات توجه ميلشوي بل جعلها أشبه بالشركات الأمنية التي ظهرت في الغرب لتؤدي خدمات دفاعية للأفراد والمؤسسات بعقود لقاء أجر محدد...، أما منظمات المجتمع المدني فهي تقدم الخدمات الإنسانية والمادية والعينية والمعنوية إلى عامة أفراد المجتمع. ويرى اللائذ أن التركيبية العشائرية في العراق ساهمت إلى حد كبير في ظهور المستبدين، وحولت المناصب الحكومية إلى إرث عائلي لذلك تعلق الناس بالعشائر وحرصوا على الارتباط وتقديم الولاء، وتنشئة الأبناء على وفق الطراز والقيم والتقاليد العشائرية ويختم كلامه بالقول إن العشائر من سمات المجتمعات البدائية المفككة وزجها في مهام مؤسسات المجتمع المدني تعميق لدورها التخريبي وإفشال لهذه المؤسسات
ويرى فريق أن إبعاد القبيلة هو من باب الاعتداء على الأطر والروابط التضامنية الموروثة وتفكيكها ومن ثمة إضعاف المجتمع أمام الدولة دون أن يقود ذلك إلى تكوين مؤسسات مدنية حديثة حقاً سوى تلك التي تصنعها الدولة فتكون على هيئة هذه الدولة أو التي ترضى عنها تلك النخبة فتكون جزءا من دولتها وبذلك فإن مؤسسات المجتمع الأهلي إنما هي بنى مقاومة متقدمة وضرورية لحماية المجتمع من بطش وتغول السلطة أو لإدارة شؤونه حين تصاب الدولة بأزمة وتتراجع وظائفها الاجتماعية والعمومية.
فهل نحن أمام سجال يشبه ما يسميه الفقهاء تكافؤ الأدلة؟.....(يتبع)
د. جمعان بن عبدالكريم - الرياض