قبل أربعة عقود تقريباً شهدت الساحة حركة نشر وتوزيع فريدة من نوعها، وكان من أهم أطرافها شركة وطنية رائدة عملت باحتراف ووعي، وتكاملت لديها عناصر صناعة النشر بكل ما تعنيه الكلمة من دهشة ومغامرة. لم تكن الشركة مجبورة على دخول معترك شائك محفوف بالحذر وهي الناجحة في سوق الإعلان الواعدة النشطة حينذاك، لكن الإيمان بالرسالة الثقافية كان محركاً رئيساً وبوصلة أداء.
الكلام أعلاه لا أظنه يقال إلا أمام تجربة واحدة قادتها «تهامة للمكتبات والتوزيع» وخلفها عقليات تفكر بجد ووطنية وشمولية وعلى رأسها المثقف المثير للجدل والنجاح محمد سعيد طيب الذي براع في تكوين فرقة ثقافية متنوعة تعزف ببراعة لم تتعودها الساحة من قبل فجمع الرواد والعلماء والمثقفين والمبدعين والأكاديميين وكتاب أدب الأطفال، واستعان بأمهر الفنيين لتقديم الكتاب بأزهى صورة وأكثرها اتقاناً، ثم قدمه في طبعات أنيقة وأسعار في متناول الجميع.
في غمرة نجاحها وانشغالها بالرواد والكتاب المعروفين لم تغفل «تهامة» أدب الناشئة والأطفال وكتابه القليلين فاستعانت بأمهرهم مثل الأساتذة عزيز ضياء، وفريدة فارسي، ويعقوب إسحاق، والأخير كان له نصيب وافر من العطاء والأكثر نشاطاً واحترافية واستمراراً حيث قدّم عشرات القصص بمحتوى عصري تربوي، وإخراج إبداعي جذاب، ورسومات لأشهر العاملين في مجال تنفيذ هذه النوعية الصعبة من الكتب.. وقد كان النجاح حليفها في فترة لم تعرف منافسين ألدّاء للكتاب كما يحدث اليوم.
تحرّك «بابا يعقوب» مستنداً إلى خبرته التربوية والصحفية فهو أول رئيس تحرير لمجلة «حسن» التي صدرت بجدة في السبعينات الميلادية من القرن الفائت كما أعد برامج إذاعية ناجحة أيضاً في مجتمع لا يحفل كثيراً بكتّاب الأطفال، وقد لا يعترف بهم، وهو أيضاً مؤسس وصاحب دار «أبو حسن» المتخصصة في كتاب الطفل والإصدار التربوي.
كان «بابا يعقوب» من دعائم العمل الشمولي المتكامل في «تهامة» المزدهرة، وبحجم النجاح جاء مشروع «كتاب الأطفال والناشئين» وأصبح من مكونات الذاكرة الثقافية التي زرعتها تهامة بمغامرتها وجرأتها وانتصارها لكل المشاريع التي لا تخلو من المخاطرة في سوق النشر العربي.
قدم «بابا يعقوب» في مسيرته أكثر من مئتي كتاب متخصص للأطفال، ويبدو أن كثيرين تناسوه، أو تعمدوا نسيانه، ولا أتذكر جهة سعت إلى تكريمه سوى مهرجان وحيد أقيم قبل سبع سنوات تقريباً، إن لم تخني الذاكرة.. والغريب أن تتعامل النشاطات الثقافية والمؤسسات بإهمال أو إقصاء للعاملين في بعض المجالات المعرفية مثل كتّاب الأطفال، وتغض البصر عن دعمهم، وتتنصل من رسالتها في هذا المجال، وتستمر الجهات المعنية بالثقافة في مسار واحد معززة تقاليد الانغلاق و»الشللية» وغياب التخطيط المتكامل الذي يحترم الجميع ويرفد المشاريع المؤسسية والفردية لترسم المشهد الثقافي بكل أعماقه وأطيافه من أجل صورة وطنية تفي بمتطلبات التنمية الثقافية الشاملة وتخدم جميع المستفيدين.
الأستاذ يعقوب محمد إسحاق أحد الذين أمضوا أجمل حياتهم في هذا المجال، وهو جدير بالوفاء والتقدير، وقد قرأت عن مهرجان للقصة ينوي تكريم واستضافة كتاب هذا الفن ملتفتاً إلى بعض المشتغلين بأدب الأطفال، ولم يرد اسم الأستاذ يعقوب. لا أظنهم تناسوه، بل يجهلون عمله ومسيرته، وللقائمين على المناسبة أعذار فهم يعملون وفق التساهيل، كما جرت التقاليد، وليس تحت مظلة عمل مؤسسي الذي لا تعرفه الجهة الكبرى التي تشرف عليهم.
لن يبقى سوى الأثر المعرفي الذي يلامس العقول والقلوب، وأظن «بابا يعقوب» في عزلته الآن أكبر كثيراً، وسيظل جهده مقدراً، ولو بعد حين في ساحة تفيق متأخرة لكن صفحات دفتر التاريخ لم تنته بعد، ولن يجف حبرها أيضاً.
محمد المنقري - جدة