وربما عبرت، مصادفة، بِحُب سابق لم تشف منه، فرافقته إلى العشاء
وربما ماتت..
فان الموت يعشق فجأة، مثلي..
وإن الموت، مثلي، لا يحب الانتظار
محمود درويش
حسناً.. وما الذي يفعل المنفيون في حيواتهم لاستنقاذ أنفسهم من الجنون وهم في انتظار ما لن يأتي؟
التففه في مثبطات الحنين وحدها لا تكفي لكسر طوق النفي القاسي الذي سقطنا فيه تحت هذا الجحيم، استدعاء الأوقات السعيدة مراراً ينهكها ويفقدها العون المرتجى والتفكير المتواصل لا يجلب سوى التشتت وأحيانا النقمة وحتى الكتابة لا تغدو ممكنة، الكتابة تجلب المسكنات الخادعة هذا إذا ما كانت ممكنة.. وهي ليست أكثر من ملاذ للأوجاع الصغيرة. و ربما وحده الغناء النجدة الأخيرة والذي قد لا يصل وقد يصل بشجن عذابات تذكر الأيام الطيبة وفردوسها المنسي.
ويبقى السقوط في الغياب، الغياب وحده الخلاص المؤكد من انتظار مهين.
السجن لم يكن يوما الجدران ولا الوحدة وليس الشعور المطلق بالظلم وربما انتفاء العدالة.. عذابات السجن تنبع من ذكرى الأيام السعيدة والتي لم تعد سوى ذكرى.. وتذكر عندما كان لنا أحبة وكتب وهواتف ولحظات اختيار وأشياء نمتلكها وكلها لم تعد لنا.. هذا الشعور بالفقد وتذكر ما كان متاحاً ولم يعد الآن هو الجحيم الأكبر في السجن تماماً كفقد الغائبين وانصرافهم عنا ثم سقوطنا في فخ الانتظارات.
وجع السجن في الانتظارات ووجع المحبين في الانتظارات ووجع الأرض القاسي انتظار المطر.. المطر الذي انتظرته طويلا وعندما وصل لم يكن لها.. كان قد خذل كل أيام عطشها وصلواتها ومضي نحو بلاد جديدة بلاد متخمة بالشبع وكأن توزيع الهبات منوط بجنون المصادفة..المصادفات التي لا تدق الباب في حياتنا مرتين. وحتى نغادر عين العاصفة نحتاج إلى طاقات أكبر وإلى معرفة مسارات الريح والماء وإلى الكثير الكثير من الحظ والصلوات أيضاً ودون التساؤل عن ما الذي حدث فليس مهما ما لذي حدث الآن؟.. المهم كيف ننجو وقد تورطنا في الحضور مبكراً لبهجة موعودة وربما لن تصل وكيف نتداوى من تلك الحماقة الكبرى.. وحيث لم نفعل كما فعل الآخرون الذين أحرقوا مراكبهم ومضوا نحو واحة السلوان واستراحوا.
نحن عوضاً عن ذلك جففنا البحر كأننا اخترنا أبعد المسارات للنسيان وتركنا المراكب أيضا والتي عاد الانتظار وأنبتها شجراً أخضر مرة أخرى وملأها حنينا وقال لنا هيا عودوا بها.. هيا.
ومرة أخرى نعود لمربع البدايات وما من عون هذه المرة سوى الملح الذي بقي ولا نجوم نهتدي بها في طرقات العودة وكأننا خسرنا كل شيء.. وكأن الحنين قدرنا نتلوه مرتين.
وساعدونا نتوشح النشيد هذا المحرض على الغفران وعلى الصعود نحو المنابع كأول مرة أو أتركونا بهدوء وصمت نسقط في النسيان.
عمرو العامري - جدة