عزيزي القارئ: إن أردت شَحن ذاكرتك، وتقوية قريحتك، ومعرفة أبعاد الكلام، ودقة اللفظ، وعمق المعاني، وجمال التشبيه، وحسن التصوير فما عليك سِوى الإبحار عبر سفينة إبراهيم التركي وأنا على ثقة أنك لن تغرق، وستعود مُحَمّلًا بدررٍ ثمينة، وجواهر نفيسة، وستستلذ بصيد ذاك البحر، كيف لا؟! وأنت تغرِفُ من: السّفرِ في منفى الشمس، وكان اسمه الغد، وكيلا يؤرخ أيلول، ووفق التوقيت العربي، ووووو... الخ. أما المقال فهو نبعٌ لا ينضب، فلم يدعُ بابًا في العلم، والأدب، والثقافة، والفلسفة، والاجتماع، إلا طرَقه وحين تتجول في رحاب مقالاته ينتابك شُعورٌ أنّك في متحفٍ ذهبي، لا فرق في الجودة بين قطعةٍ وأُخرى، فأيهما تختار هي الأجود، وحتى لو اعتمدت العشوائية في الاختيار أزعم أنك لن تندم، وحين تستقي من ذاك النبع أُجزم أنك ستعود إليه من جديد. نَظَرَ التركي إلى الكلمة نظرةً هندسية، فاللفظة عنده بناء متكامل، ودعامة أساسية، تَبعثُ متانةً ورصانةً في التركيب الذي وُجِدت فيه، وهنا يسبح القارئ في تأملات عميقة تدفعه أحيانًا لفكّ (شيفرة) ذلك النص فسرعان ما يتّجه نحو المعجم وهنا يكمن الجمال.
امتاز التركي بأسلوب يمكن وصفه بالسّهل الممتنع، يجمع بين الرصانة والقوة من ناحية والسلاسة واليسر من ناحيةٍ أخرى، وهنا تتجلى براعته تبعًا لمقام المخاطب، ويبدو ذلك واضحًا في لمساته الشعرية المنثورة بين كتاباته، تأمّلوا معي هذا النص المعنون ب «خربشة عيد قديم»، حيث يقول:
العيد حين يتيهُ الحلم في الأفقِ..
فنرتجيه بلا راقٍ ولا قلقِ
يَهديه إشراقُه حينًا وأشرعةٌ...
تُعيده لغةً للحبّ في الحَدقِ
لا أظنُّ أنّ الإشباع الفكري لدى القارئ يتحقق بالقراءة الأولى، فيبدأ بالبحث عن أبعاد الكلام فيتلذّذُ بقراءته مرة أخرى، وقد يقرأه ثالثة دون ملل؟! فلو نظرنا للمصطلحات المستخدمة يتبين أنها سلسة نوعا ما (الحلم، يتيه، راق، قلق، أشرعة، الحب، الحدق...) ولكنّ براعته الهندسية جعلت من هذه الألفاظ تركيبًا متينًا يبعث على القوة وعمق المعنى، ومزيجًا بين الرومانسية والكلاسيكية. أما التكرار فيبدو أن صوت القاف هو الأكثر تكرارًا في النص السابق حيث تكرر ست مرات وللتكرار هنا دلالة عميقة فصوت القاف في اللغة يوصَفُ بأنه صوت مجهور يدل على قطع، أو وقف شديد، من هنا يتضح أن للحرف عند التركي دلالة قائمة فيه يبعث قوة في لَبِنة الكلمة، فينعكس ذلك على التركيب... ولا أريد الخوض في تحليلات دلالية في هذا المقام وسيكون لي بإذن الله حديث آخر في مقامٍ آخر.
لا شك أن سعة ثقافة التركي انعكست بجلاء في كتاباته، حيث يتمتع بفلسفة خاصة في انتقاء واختيار الألفاظ، فلو عرضت عليك نصًا من نصوصه وأخفيت عنك الاسم والرسم، لانتابك شعور أنّك تقرأ للجاحظ، أو لأبي حيّان التوحيدي، أو ابن المقفع، تأملوا قوله في مقاله المعنون بـ»الأسلوب المظلوم»:
«الأسلوبُ لغةٌ تشرق فيها المفردة وتتماسك الجملة ويرقى البيان، ومع الفروق المعروفة بين الأساليب الأدبية والعلمية والخبرية والفقهيةِ والقانونية والصحفية وسواها...».
ويقول أيضًا في المقال نفسه: ولن نحتاجَ إلى كبير عناءٍ لإدراك أن ما نقرأُه شعرٌ أو شعير، وهل الطرحُ المنتشرُ نثرٌ أم نِثار...».
لقد كنت عازمًا على الكتابة في حق هذا الرجل منذ زمن، حيث عرفته عن قرب حين تشرفت بالعمل معه ضمن مؤسسة تربوية كان يرأسها، والآن وقد ذهب كل منّا في طريقه، ارتأيت الحديث عنه في هذه الظروف.
مراد خليل عياصرة - محاضر في جامعة الملك سعود - الرياض