نُشِرَت في السنتين الأخيرتين مجموعة من المقالات بهدف إعادة النظر في النشاط الخاص بالمؤتمرات والملتقيات والندوات والمحاضرات ذات الطابع العلمي أو الثقافي، ولفت انتباهي أنّ أغلب هذه المقالات تتحدث عن الضعف العام في هذا النشاط، لكنها تكتفي عند التدليل عليه بالإشارة إلى ضعف البحوث المشاركة، أو عدم جدية الباحثين، أو وجود مشكلات في التنظيم، وتغفل عن جوانب أخرى أقدّر أنّ لها مساهمة كبيرة في خلق هذا الضعف أو تأصيله.
ولعل المداخلات التي تُختم بها الجلسات العلمية أو الثقافية أحد هذه الجوانب المغفول عنها في هذا السياق رغم أهميتها في ضبط الإيقاع، وصناعة التوازن، وتحفيز الباحثين على بذل الجهد لتقديم مادة بحثية منبرية قادرة على إقناع المتلقي، أو قادرة - في أسوأ الأحوال - على الدفاع عن نفسها. لذلك رأيتُ تخصيص هذه المقالة لعرض بعض الملامح السلبية التي وجدتها في عدد كبير من المداخلات في الأنشطة العلمية والثقافية المحلية، وأؤكد هنا أنّ هذه الملامح رغم اتساع دائرتها لا يمكن أن تدفعنا إلى الاسترسال خلف (التعميم)، فثمة مداخلات جادة وعميقة لا يمكن أن يتجاهلها أحد، لكن يؤسفني أنّ محدوديتها تؤكد القاعدة العامة ولا تنفيها.
وأشير هنا إلى أنّ من المفكرين والمثقفين من عرض لهذه الظاهرة وأثرها السلبي في العمل البحثي والنشاط العلمي والثقافي بوجه عام، لكن أغلب ما اطلعتُ عليه - في هذا السياق - يستهدف مؤتمرات خارجية، أو بعيدة عن النشاط الأدبي والنقدي والثقافي الذي أتحدث عنه.
وبناء على ما سبق سأكتفي في هذه المقالة بعرض عدد يسير من الملامح لتكون بمثابة الإشارة السريعة إلى هذه الحالة..
1 - غياب الإضافة المعرفية:
قد تكون الملحوظة الأهمّ في هذا السياق خلوّ أغلب المداخلات من العوامل التي يمكن أن تفضي بنا إلى إضافة معرفية، كالسؤال الجاد - العميق، ودعم الورقة البحثية بعدد من الدراسات، وتقويم منهجها، واختبار عمل المفاهيم الإجرائية فيها، وكشف مواطن الخلل في مادتها المدروسة، وإبداء وجهة نظر علمية حول النتائج التي انتهت إليها.
لذلك يمكن أن أقول إنّ خلوّ أغلب المداخلات من هذه العوامل، جعلها صالحة لاستهداف جميع الأبحاث في جميع التخصصات!.. وبهذا يمكن أن نفسّر حرص بعض المثقفين أو المدعوّين على طلب المداخلة في جميع الجلسات، رغم تعدد مناهج ومنهجيات ومحاور الأبحاث المشاركة فيها؛ ذلك بأنّ المداخلة في نظرهم تعقيب عام، يشير فيه المداخل إلى أهمية هذا البحث أو ذاك، ثم يختمه بالدعوة إلى متابعة الجهد في جزئياته للوصول إلى نتائج عميقة!!
إنها مداخلات فقيرة لا تثري العمل البحثي، ولا تخدم محاور النشاط، ولا تحقق قيمة مضافة لموضوعاته، وقد رأيتُ أصحاب البحوث الجادة محرجين في التعامل معها، ومتردّدين بين تجاهلها أو مجاراة أصحابها بالشكر البارد والتقدير الهزيل!
2 - المجاملات:
تبدو المجاملة وجهاً آخر من وجوه المداخلات التي نستمع إليها في كثير من الأنشطة، ويظهر هذا النمط بوضوح في انصراف أكثر المداخلين إلى (الباحث الصديق)، أو (الباحث الزميل)، أو (الباحث المقرّب)، وعدم الاهتمام بما عرضه (الباحث غير المعروف)، أو (الباحث الشاب)، أو (الباحثة)، وعادة ما تُبنى هذه المداخلات على المدح والثناء، والتعبير عن الإعجاب بالبحث المقدّم أو بتاريخ الباحث، وربما اختار أحسنُهم طريقة التظاهرَ بالاختلاف مع الباحث، أو محاولة استفزازه.. ومثل هذه المداخلات تسهم في فتح بوابات الذاكرة، لنجد أنفسنا معها أمام شريط طويل لحياة الصديقَين الكريمَين!
3 - استعراض المنجز الخاص:
يمتلك بعض المداخلين قدرة عجيبة على استدراج الأبحاث إلى دائرتهم الخاصة؛ لتكون والحال هذه مدخلاً للحديث عن منجزهم العلمي أو تجربتهم الثقافية أو الوظيفية، وهنا تظهر الجمل المعتادة: «قدمتُ قبل سنوات بحثاً»، و»لدي مشروع كتاب حول كذا»، و»شاركتُ في مؤتمر خارجي بعنوان»، و»حين كنت أحضر الدكتوراه في أمريكا»، و»لدي سلسلة طويلة من المقالات حول كذا» دون أن يكون لهذه الجمل - المفاتيح رابط وثيق بمحور الجلسة، أو بموضوعات الأوراق المشاركة فيها، فكأنّ الثمرة الوحيدة لهذا النوع من المداخلات عرض هذا المنجز، واستغلال التجمّع العلمي أو الثقافي لاستعراض بعض جوانبه!
4 - المداخلات الانطباعية:
وهذا النوع من المداخلات هو السائد في أنشطتنا العلمية والثقافية، وأقصد بالمداخلة الانطباعية أن يقدم المداخل أحكاماً حول الورقة البحثية مع احتفاظه بمعطيات أو حيثيات هذه الأحكام، و(تتكثّف) هذه المداخلة لدى النقاد الأكثر حضوراً في الساحة الثقافية؛ لذلك يمكن أن نلمس في بعضها نزعة سلطوية؛ لأنها تستند إلى اسم صاحبها وإلى موقعه من الساحة الثقافية أكثر من استنادها إلى البعد المعرفي أو الثقافي.
ويمكن أن نتمثّل هذا النمط من المداخلات في الحكم الانطباعي على بعض الأوراق بالقوة وعلى بعضها الآخر بالضعف، والتبشير ببروز اسم هذا الباحث في المستقبل، وتجاهل ذاك، وكلها في النهاية تعزّز حضور المداخِل دون أن تقدم شيئاً مفيداً للباحث أو للمتلقي فضلاً على موضوع النشاط ومحاوره المختلفة.
5 - المداخلة من أجل المداخلة:
إذا كانت المداخلات السابقة تحاول تقديم نفسها بصورة جادة، فإنّ ثمة مداخلات تفضح نفسها بنفسها، وقد يسهم سلوك المداخل نفسه في كشف منطلقها أو غايتها، وسأشير هنا إلى صورتين فقط (وفي أدراج كلّ واحد منا عشرات الصور):
1 - عُرِف أحدهم بقضاء وقت الجلسة العلمية خارج القاعة، لكنه قبل نهايتها بدقائق يعود إلى مكانه في المقدمة ثم يطلب المداخلة، ولا يجد بعد ذلك حرجاً في طرح عدد من الأسئلة أو الانتقادات على جميع الأوراق المشاركة، وقد فسّر لي أحدهم هذه الحالة بـ (الخبرة) التي تمكّن هذا الأستاذ من فهم التفاصيل بنظرة واحدة إلى العنوان!!
2 - عُرِف أحدهم في منبر الحوار (نادي الرياض الأدبي) بطرح الأسئلة ثم مغادرة القاعة قبل الاستماع إلى الإجابة، ولقد أعجبني أحد الضيوف حين تجاهل أسئلته، وقال: «خرج فخرجت أسئلته معه»!
رأي:
أجزم أنّ ضعف المداخلات أو استثمارها لتحقيق أهداف خاصة أحد الأسباب الرئيسة لضعف الأبحاث العلمية.. و»كما تكونون يولى عليكم» !.
خالد الرفاعي - الرياض