تظل الأقوال المأثورة ماثلة في الذهن، متداولة في الحديث تمهيدًا واستشهادًا واستعراضًا، لكنها غير متمثَّلة حتى يشهد عليها الواقع، وتنتقل إلى جانب الممارسة والتجريب، وكثيرًا ما سمعنا أن الشهادة لا تكفي، وأنها لا تفصح عن إمكانات صاحبها، وأنها .. وأنها.. ولم أستبن حقيقة هذه المقولة حتى تمثلت أمامي حينما كنت مسؤولا عن مقابلة المتقدمين على وظيفة (أستاذ مساعد) في إحدى جامعات وطننا الحبيب.
تقدم إلينا خلال أربع سنوات عدد من خريجي الدكتوراه، بعضهم نالها داخل المملكة، وبعضهم خارجها، عزموا على مواصلة الدراسة، وصبروا على الجمع بينها وبين الوظيفة، وتحملوا مشاق السفر لبلدان مجاورة، والتردد في خطوط برية أو جوية، عددًا من السنوات.. لا أريد هنا أن أتحدث عمن اجتاز المقابلة، وكانت شهادته المشرفة مرآة لقدراته، وهم ولله الحمد الأكثر، ولكن أريد أن أتحدث عن صنفين آخرين من المتقدمين:
الصنف الأول: من حصل على الشهادة الجامعية بتقدير لا يؤهله نظامًا لمواصلة الدراسات العليا، أو لا يُمَكِّنه من المنافسة على المقاعد المتوفرة، وحصيلته العلمية متدنية، فدرس على حسابه خارج البلاد، أو انضم إلى برنامج خادم الحرمين، حتى حصل على الشهادة العليا بتقدير عالٍ، ولا يستغرب هذا في ظل غياب معايير التقويم الدقيقة، وخاصة في العلوم الإنسانية، وفي الدول العربية خاصة، وقد يتبادر إلى الذهن سلوك سبل معوجة للوصول إلى الشهادة، ولا نحتاج إلى هذه الفرضية لنعلل النتيجة، فإن عدم دقة معايير التقويم كفيل بمثل هذه النتائج التي لا تكشف عن الحقيقة.
لقد قابلنا بعض هؤلاء لا يعرف عن رسالته إلا ما واجهه من صعوبات في كتابتها، وما ضحى به من أجل الحصول عليها من الوقت، وترك الوظيفة، أو الإجازات الاستثنائية، أو غير ذلك من العقبات، أما المادة العلمية فلا يكاد يدرك منها شيئًا، ولا أبالغ، إن قلت إن بعض من قابلت لا يعرف أبجديات تخصصه!
قد يكون السبب في جامعته التي حصل فيها على شهادته العليا، ولكن ليس هذا هو السبب الجوهري في نظري، فبعضهم حصل على (الدكتوراه) من جامعات عريقة، (بعد أن درس الماجستير على حسابه الخاص)، ولكن السبب في تكوينه وتأصيله العلمي، إن الأساس الأول هو الذي عليه المعول، وقد يرقى الضعيف في درجات السلم وهو لا يزال ضعيفًا، فلا زالت وسائل التقويم تعتمد مستوى أو مستويين فقط من مستويات سلم المعرفة، فلا تقيس قدرة، ولا تكشف حقيقة، وكم أثار العجب طلاب وصلوا الجامعة لا يقيمون القراءة والكتابة على الوجه المطلوب!
أصحاب هذا الصنف مظلومون، مخدوعون بشهاداتهم، التكوين العلمي لا علاقة له بالشهادة، فمتى يعون، ويوفرون على أنفسهم عناء الدراسة، وتكاليفها المادية والجسدية والنفسية، أو لعلهم يعون، فيطوروا أنفسهم معرفيًّا قبل أن يضعوا أرجلهم على الدرجة الأولى من درجات سلم الدراسات العليا.
إن ثمة طاقات تهدر، للحصول على لقب مزيف، ما إن يصطدم بأول اختبارات الحياة العملية حتى يتعرى. أما الصنف الآخر، فهم الحاصلون على الشهادة الجامعية بتقدير عال، وبحصيلة علمية جيدة، ولسبب أو لآخر لم ينخرطوا في السلك الأكاديمي، فحصلوا على الشهادة العليا على حسابهم أو ضمن برنامج خادم الحرمين للابتعاث.
هذا الصنف قد حصل ما عجز عنه أصحاب الصنف الأول، نال علمًا وشهادةً، ولكنه فقد شيئًا عظيمًا جدًّا، فقد ما يمكن أن يُسمَّى (الذكاء الأخلاقي) الذي يبني العلاقات على المودة والتعاون والتكامل، نأيًا عن الأنانية والتكبر والمناكفة والتجني، التي لا تناسب أبدًا عقلية حامل الشهادة العليا، الذي أمضى جزءًا من عمره يفكر تفكيرًا منطقيًّا موضوعيًّا، أسس على ذلك دراسته وشهادته، بعض هؤلاء بنى سمعة في مواقع عمله السابقة لا تؤهله لأن يحرص على استقطابه ولا على الموافقة على طلبه.
هذا (الجفاء الأخلاقي) و(التفكير النفعي) يظهر في المقابلة، ولا حاجة إلى استرجاع سجله والسؤال عنه في الخارج كما يسأل عن الخاطب، بل يفلت من لسانه ما يعسر التغاضي عنه، ومن أطرف ذلك أن أحدهم وهو في المقابلة الشخصية يتحدث عن تخفيض نصابه إذا ووفق على طلبه ليتمكن من إنجاز بحوث ينوي العمل فيها! وآخر يكتب لرئيس اللجنة بعد خروجه منها، (وقد كتبوا تقريرًا حسنًا عنه) رسالة في الجوال يتهم فيها اللجنة بالعنصرية والإقصاء! فسبحان الله، كيف يعطي ويمنع!
إن بريق اللقب، ونضارة الوظيفة العليا، اجتذب إليه من لم يقدر ثمنه حق قدره، فمن فقد التأصيل العلمي وجد نفسه غريبًا في وسطه، إذا تناقشوا نأى عن النقاش، وحوَّل الحوار إلى شؤون الحياة التي يستوي فيها المتعلم ومن دونه، وإذا تقاسموا المهام العلمية اقتصر على أقلها عناء مما يَسكُتُ به رئيسه، وإذا وقف أمام الطلاب ستر ضعفه باتخاذ التيسير سبيلا، وطالما تظاهر بالحرص على ألا تتشتت أذهانهم، إذا ما لز بسؤال يجهل إجابته، أو أثيرت قضية لم يسمع بها من قبل!
التفكير الموضوعي من أظهر سمات صاحب الشهادة العليا، وحري به أن يتمثله في حياته، ومن تنكَّب طريقه فدأبه الثناء على نفسه، وانتقاص غيره، والدخول في النيات، وخرق الإجماعات، وتعطيل المشاريع، وهاجسه الأول ألا ينقص من حقه، فيطير في موجة المطالبة، سواء تأكد من أحقيته أم سار على وحي المثل: إن لَقِحَتْ وإلاَّ لم يَضُرَّها الفحل.
د. فريد بن عبد العزيز الزامل السليم - عنيزة
Fareedzam@hotmail.com