يبدو أننا نعاني من أزمة إبداع، تجعل منجزنا الإبداعي في منأى عن طرق أزماتنا المعيشية الملحة وقضايانا المهمة، ربما هذا هو التفسير المقبول لغياب كثير من القضايا الماسة عن المنجز أو طرحها بشكل باهت أبعد ما يكون عن الخطاب الإبداعي المؤثر، فقضية مثل أزمة السكن مثلاً التي يعاني منها نسبة كبيرة من المواطنين، لماذا لا نجد لها صدى أو حضور حقيقي في الإبداع المحلي الذي يفترض أنه أداة فنية لتشكيل الوعي لدى المتلقي بقضاياه وبالتحولات التي تحدث في حياته وانعكاساتها على واقعه.
قضية السكن هي من القضايا الهامة المقلقة الشائكة ذات القابلية لتشكيل صراع درامي كثيرا ما شاهدنا بعض ملامحه في الدراما العربية. وذات قابلية لخلق مساحة متنامية من التوتر تعتبر أحد اشتراطات العملية الإبداعية سواء كان العمل سردي أو لوحة تشكيلية أو فيلم أو أي عمل فني إبداعي آخر.
وهو ما يجعلنا نتساءل حول أسباب إحجام المبدعين وزهدهم في الاشتغال على مثل هذه القضايا الضاغطة على الفرد والمجتمع، والتي من المفترض أنها تمس المبدع وتشكل شطرا غير قليل من همه الذاتي، ففي حال قضية أزمة السكن مثلا نجد كثير من المبدعين يقاسون من نفس المشكلة بسبب أزمة مادية تطال غالبية شؤون حياتهم. وللوقوف على حجم معاناة المبدعين من هذه المشكلة تحديدا اقترح عمل استبانة تحدد نسبة تملك المبدعين لسكن من عدمه وعندها أثق أن دهشتنا ستتضاعف من تجاهلهم لهذه القضية.
وعوضا عن ذلك يدور البعض في حلقة من المواضيع المكررة نتيجة فقدان البوصلة والتمادي في الخوض فيما يعتقد بأنه ما زال مسكوتاً عنه، أو خلق هموم وهمية وتضخيم أخرى هامشية، ما يؤشر لحاجة المبدع إلى غربلة الأفكار قبل التسرع في تدوينها أو تجسيدها، ويتطلب أيضا تحديد أولوياتنا من العملية الإبداعية، ومفهومنا للإبداع، والقيم التي نتبناها حياله، واستشراف مستقبل منجزنا الإبداعي، فقد ننجح ساعتها في الحد من اللهاث المحموم وراء ما يقدمه الآخرون في محاولة لمحاكاته وتقليده وهو ما يملأ الساحة بنماذج شائهة من الأعمال التي تفتقر للروح الإبداعية كما تفتقر في العادة للهم الإنساني الحقيقي.
تعد الثقة المرتكزة على مواطن من ثراء معرفي وقيمي محرك أساس في تفتيق الكثير من القضايا الراهنة بثوب إبداعي مبتكر يضاعف من قيمتها وبالتالي من عملية تلقيها ومن الأثر الذي تتركه.
ومن الملاحظ مثلا أن الاشتغال الرئيسي في مجال الرواية مثلا لدينا باعتبارها أحد أهم الأجناس الإبداعية التي اكتسحت الساحة الثقافية، يقوم على الجانب الاجتماعي والإصلاحي أكثر من أي جانب آخر، في محاولة متطلعة نحو تغيير الواقع المعاش إلى جانب إسهاماتها في مقاربة ألوان من الصراعات الفكرية والنفسية والثقافية والعاطفية وهذا أمر جيد. لكن ماذا عن قضايا العصر الراهنة مثل: التطرف والإرهاب وقضايا الإنسان المقهور، والمستلب، وأزماته الحياتية، كالسكن والفقر والبطالة وانتهاك الحقوق، إلى أي مدى نجح الإبداع المحلي في تقديمها بشكل إبداعي له وقعه عبر خطابه الفني؟
الواقع أن المتلقين متعطشين لأي عمل يتماس مع همومهم الملحة، ويتلقفون أي عمل في هذا الصدد في مرحلة مكتنزة بالكثير من الهموم وبقدر قليل من الإبداع الحقيقي، وهذا ما قد يفسر الإقبال الكبير على مشاهدة بعض البرامج الحوارية التي تناقش هموم المواطنين، وإن كنت أؤمن بأن الإبداع أكثر وقعا وأبعد تأثيرا.
ربما البعض منا لا يزال يتذكر فيلم (مونوبولي)، الدرامي الوثائقي، وهو من نوع الكوميديا السوداء للمخرج بدر الحمود الذي عرض قبل نحو أربعة أعوام حول أزمة السكن في السعودية لكن يصعب عليه في ذات الوقت تذكر حلقة من برنامج حواري خاض في طرح نفس المشكلة، إذ تظل للإبداع سطوته وسلطانه إذ ما كثف خطابه ونزعاته الإنسانية البحتة.
ولا شك أن أسباب غياب بعض قضايانا عن ساحة الإبداع تظل كثيرة وتحتاج الى دراسات بسبب تنوع أبوابها وعواملها، ولكن هذا لا يعني أن الإبداع الحقيقي الذي نأمله أمر صعب المنال في حال توافرت ملكات إبداعية متجردة من الرغائب المدمرة للإبداع كالتطلع السريع لنيل الشهرة، إذ في حال تجاوز هذه الرغائب فقط يمكن أن يفجر المبدع العديد من الأزمات الإنسانية التي تطوقه عبر بوابة الفن الإبداعي على وجه التحديد لصناعة وعي مختلف.
في كل الأحوال لا يمكننا إلا أن نشعر بوجود تقصير إبداعي حيال قضايانا ونعتقد بضرورة التفكير الجدي في التفات الإبداع لها، فمنطلقات العمل الإبداعي غالبا ما تكون هي الواقع باتجاه خلق حياة موازية تعيننا على فهمه.
شمس علي - الدمام