من أشهر الوراقين في الرياض وأقدمهم!
يذكر الأستاذ سعد الجنيدل أنه في شبابه كان يعمل مع والده في تجارته بالمواد الغذائية، وكان يأتي للرياض قبل ستين عاماً، أي في حدود عام 1375هـ؛ ليستلم البضاعة من التجار، وينقلها إلى حيث والده ببلدة (الشعراء) بالقرب من الدوادمي، وأنه يذهب فور وصوله للرياض إلى (حنيشل) صاحب دكان صغير في حي (دخنة) وسط العاصمة الرياض.
وقال: إن حنيشل يبيع في دكّانه بشارع محمد بن عبدالوهاب غربي مسجد الشيخ محمد بين إبراهيم - الكتب وبعض الأرزاق الأخرى، وأنه يساومه ببعض الكتب التي كان يغالي بأثمانها، وأنه قد اشترى منه جواهر الأدب والبيان والتبيين والحيوان للجاحظ وكليلة ودمنة، وغيرها.
وقال: إن حنيشل يجلس في مدخل دكانه منهمكٌ في تجليد (حبك) بعض الكتب المستعملة أو المخطوطة الورقية، فإذا سأله سعد عن كتاب معيّن قام ودخل الدكان؛ ليحضره له بعد مسح الغبار المتراكم عليه بكُمّ ثوبه، وكان يمتدح الكتاب، ويذكر أنه لا يوجد منه سوى هذه النسخة؛ حتى يقطع الطريق على المشتري، ولا يكثر المساومة.
وعند استضافة الأستاذ إبراهيم المعارك في المكتبة، وتطرق بحديثه إلى حنيشل، أكد معرفته به، وقال: إنه قدم من بريدة بالقصيم، وكان على معرفة بوالده الشيخ عبدالعزيز المعارك إمام مسجد البرقية، وكان معدماً، ولديه معرفة بتجليد الكتب، إضافة لهوايته في القراءة والاقتناء، لكنه لا يملك المال لتنمية هوايته، فصحبه المعارك إلى الشيخ عمر بن حسن رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالرياض آنذاك، فشرح له حالته ورغبته في العمل بدكان يختص بالوراقة.
فقدّم له الشيخ عمر ألفاً وخمسمائة ريال (1500)، وبدأ عمله باستئجار دكان في الزاوية الغربية الشمالية من دخنة، وبعد سنة ونصف السنة استطاع أن يجمع مبلغاً لا بأس به، فذهب للشيخ عمر لتسديد المبلغ، ورأى مضاعفته على أساس أنه ربح بالبضاعة، فما كان من الشيخ إلا أن رفض استلام المبلغ بدعوى أنه قدمه له من باب المساعدة، وليس القرض.
واشتُهر بين طلبة العلم في نهاية السبعينيات والثمانينيات الهجرية، وأصبح دكانه مقصداً لهم، وبخاصة بعد عصر كل يوم؛ إذ أصبح يجلس في مدخل دكانه رغم صغره مع مجموعة منهم.
لقد أصبح يسافر للكويت ثم للشام، ويجلب منها الكتب النادرة التي يكثر طلبها، ثم امتد به السفر إلى بيروت فالقاهرة، بل بدأ يوحي بإعادة طبع الكتب غير المتوافرة لكثرة السؤال عنها.
فمن هو (حنيشل) هذا النوع قريبه ابن أخيه عبدالله بن أحمد الحنيشل يروي نتفاً من سيرته التي نشرها في جريدة الرياض العدد 14130، وتاريخ 12 صفر 1428هـ - 2/ 3/ 2007م: «.. هو حنيشل بن عبدالله بن عبدالعزيز الحنيشل.. وُلد في بريدة بالقصيم عام 1313هـ، وأمه رقية العثمان الخضير، له قرابة مع الفوزان السابق. دخل مدارس الكتاتيب بمدرسة المربي صالح الصقعبي؛ فتعلم القراءة والكتابة، ثم حفظ القرآن، كما تعلم على يد عدد آخر من المشايخ والعلماء، وقرأ عليهم، ثم رحل إلى الكويت، ولازم عالمها الشيخ عبدالله بن خلف الدحيان بعض الوقت، ثم عاد إلى بريدة، ودرس على الشيخ عبدالله بن حميد وغيره.. «.
انتقل للرياض، ولازم حلقات المشايخ في المساجد مع ممارسته مهنة البيع والشراء في المقيبرة، ثم عمل مدرساً في المدرسة التذكارية عند افتتاحها بالرياض بمناسبة عودة الملك عبدالعزيز - رحمه الله - من زيارته لمصر، وكان راتبه الشهري جنيه ذهب، وكان يدرِّس مادة القرآن. ترك التدريس، وعاد للبيع والشراء في الأقمشة النسائية، مع قراءته على المرضى بالرقى الشرعية. وفي عام 1375هـ اتجه نشاطه إلى بيع الكتب؛ فقد كان حنيشل طالباً للعلم، حريصاً على الاتصال بالعلماء وطلاب العلم، وحريصاً على المطالعة والقراءة، كما برع في حبك الكتب وتجليدها والاعتناء بها؛ ما كان له أعظم الأثر في توجُّهه لهذا العمل.
وقد استأجر دكاناً، أصبح هو المكتبة التي عرفها الجميع، ووجدوا بها بغيتهم، رغم تواضعها، وبلا اسم يستدلون به عليها. وكان مبنى الدكان من الطين، وكثير الغبار والحشرات، وكانت الفئران تعتاش من الكتب (بضاعته)، وخصوصاً إذا سافر لجلب الكتب من الشام ومصر فتطول غيبته؛ فيجد الفأر راحته دون خوف.
بعد أن عرف طريقه في السفر إلى مصر والشام وبيروت، حيث تعامل مع مطابع السابقية ودار الكتاب العربي، أصبح يستورد الكتب منهم، ويقوم أحياناً بالتوصية، وأحياناً يطلب طباعة بعض الكتب على حسابه. وقد أعجبه السفر؛ فأخذ يطيل أحياناً البقاء في لبنان بدعوى البحث عن المهم من الكتب، حتى أنه بقي مرة سنة كاملة. وكان يشحن الكتب من مصر عن طريق البحر، أما الكتب التي يحضرها من الشام أو لبنان فعن طريق البر. وكان يشتري الكتب المستعملة والمكتبات الموروثة حتى اشتُهرت المكتبة، وكثر روادها، وجُلّهم من العلماء والأدباء وطلاب العلم وأهل المعرفة. ثم أصبح يوزِّع الكتب على بعض المكتبات في الرياض، ومنها مكتبة الرشد، وغيرها. وكان يستعين بمن يساعده في عمله، إضافة لصبي كانت مهمته نفض الغبار عن الكتب. وانشغل عن التجليد فأصبح يتعامل مع مجلدين (حباكين) في الشام. وطلبت منه وزارة الإعلام عند إنشائها تصريحاً للمكتبة في آخر حياته فقال لهم: ماذا تريدون مني؟ أنا لا أبيع إلا المسموح به!! فقالوا: هذا لا يضرك، مجرد روتين، ولا هناك خسارة عليك. فتعاون معه (مدير المطبوعات)، واستخرج له الرخصة، وذهب لهم، وقدم لهم ما طلبوه من أوراق، واختار أن تسمى (مكتبة التسهيل)، وطلبوا منه العودة بعد بضعة أيام لاستلام الرخصة، لكنه تُوفِّي قبل استلامها، وكانت وفاته في شعبان 1389هـ. باع الورثة ما بقي من الكتب، كما أهدوا بعضها لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
كما وُجد بعض المخطوطات عليها «تملكات حنيشل»، ومن خط يده الجميل.
وقد ذكره وأشاد به كثيرٌ من المؤرخين نذكر منهم المؤرخ عبدالرحمن الرويشد الذي قال عنه: إن باب دكانه مجمع لبعض المشايخ وطلبة العلم، وذكر منهم سويلم محمد السويلم الذي كان يعمل مع سماحة المفتي. ويذكر محمد القويعي أنه بعد وفاة حنيشل عُرضت مكتبة للبيع، وأنها ضمت محتويات المكتبة السعودية التي كانت تقع في الزاوية الجنوبية الشرقية من مسجد الشيخ محمد بن إبراهيم قبل إزالتها.
ويذكر سعد الجنيدل أنه «لم يكن لدى حنيشل من يساعده، وكنت بحاجة إلى كتاب (تاريخ الجبرتي)، وهو لا يوجد إلا عند حنيشل، وقد شدد بالسعر».
ويقول عنه محمد الربيع رئيس النادي الأدبي بالرياض سابقاً: إن مكتبة حنيشل من المكتبات الشهيرة، وقد تميزت بوفرة الكتب الشرعية، والنادر منها على وجه الخصوص. وقد عرفتُ المكتبة عام 1381هـ وأنا صغير السن وطالب في المعهد العلمي، وكانت المكتبة في طريقي اليومي، وصاحب المكتبة شيخ كبير مهيب، يتعامل مع الكبار، وكان ينظر إلينا على أننا صغار على الكتب التراثية، وربما رأى أنه من الاحترام لتلك الكتب ألا نمسها أو ننظر إليها نحن الصغار؛ ولذلك لم يكن يأبه بسؤالنا عن الكتب، وربما قال: الكتاب غير موجود. وربما رد علينا بشيء من القسوة، ولم يكن ذلك عن سوء طوية أو احتقار، لكنه ظن بنا العبث وعدم الجدية في السؤال، حتى جاء يوم سألته عن كتاب من كتب التراث، فأراد أن يختبرني، فقال «وماذا تعرف عن هذا الكتاب يا ولد أو (يا ورع)؟» نسيت العبارة الآن. فقلت له إنه كتاب يبحث في كذا وكذا؛ فأعجبه الجواب؛ لذا غيّر لغة الخطاب معي، وابتسم، وابتعت منه الكتاب، وربما خصم لي من سعره الزهيد، ولم يعد إلى لهجته الصارمة بعد ذلك.
ونختار من بحث أحمد الحنيشل أن طيب الذكر «حنيشل قابل شيخه عبدالله الخلف الدحيان في إحدى رحلاته للكويت، ولما رآه ورحب به قال الأمان يا أبا عبدالله، فرد عليه حنيشل: لك الأمان يا شيخ عبدالله إلا على (مرقوقة) أم محمد».
ومعروف مقصد الدحيان أن يطلب الأمان من اسمه (حنيشل)، فهو تصغير أو مفرد للحنشل، وهم مجموعة من اللصوص الصعاليك، أو السراق وقطّاع الطرق، الذين لا يغيرون إلى على القاصية من القافلة، أو المجموعة الصغيرة. ومفردهم حنشولي.
ونختتم بما ذكره العلامة محمد الناصر العبودي في (معجم أسر بريدة) عن أسرة الحنيشل واهتمامهم بالمكاتبات والمخالصات وكتابتهم للوصايا، وأنه وُجد في الوثائق «وثيقة كاتبها من الحنيشل، وهو حنيشل العبدالله الحنيشل، وهي مؤرخة في 28 جمادى الآخرة سنة 1330هـ (ج 4، ص 729)». وقد وصفه إبراهيم المعارك بأنه نحيف الجسم، طويل، أسمر البشرة، ذو لحية طويلة بيضاء، يصبغها بالحناء. وعُرف أنه الوحيد الذي يشتري ويبيع الكتب؛ فعندما يُنقل أي طالب علم أو قاض أو رجل له اهتمام بالكتب إلى منطقة أخرى، كأن ينتقل عمله خارج الرياض، لا يحمل معه إلا ما خف وزنه من مستلزماته الشخصية، فيبيع الأثاث وما لا يضطر إلى عمله، ومنها الكتب. وكان حنيشل هو الوحيد تقريباً الذي يشتري ما يعرض للبيع من تلك الكتب.