إن سؤال النهضة - والتجديد الديني جزء منه - هاجس طالما سكن البنى الذهنية القلقة والمهمومة بالحالة الاسلامية والعربية والتي يترجمها ذلك السؤال «لماذا تقدم الغرب» لنأخذ بأسباب تقدمه، هذاالسؤال الذي اضحى مع شكيب ارسلان «لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم» ثم استحال هذا السؤال الكبير مع أبي الحسن الندوي إلى: «لماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين»وهكذا يستمر هذا السؤال ويتجدد وتتنوع صيغه التصريفية وتتعدد قوالبه التركيية ويناقش بكثافة ومن زوايا نظر متنوعة ومن مواقع ايديلوجية متفاوتة.
إن الإجابة عن هذا السؤال صحيح انها ليست منوطة بالخطاب الديني وحده فحسب إذ المعني به أوسع من ذلك،فالمعني به هو المجتمع المسلم بكافة مكوناته والتي تتباين في رسم خارطة الطريق وصياغة الإجابة الملائمة والدافعة باتجاه تبني الخيار الأنجع والأكثر وفاء بمتطلبات المعطى السياقي، لكن ومع أن الإجابة على هذا السؤال تعني المجموع بكافة تنويعاته إلا ان التجديد الديني هنا يتبوأ موقع المركز فهو ليس حديثا عابرا ولا مسألة وقتية ولا بعدا جزئيا ولا حوارا ثقافيا يدار في مقهى أو يستدعى في حدود مجادلات قلما تخرج عن إطار المنا كفات ذات المنحى المتخم بالتأدلج وبشكل يقلل من فرص العثور على رؤية تجديدية ناضجة.
«التجديد» كمصطلح بات في سياقنا الراهن أحد المفردات التي كثيرا ما تثير التوهج وتبعث التوتر في آن واحد إذ يجري تداوله بزخم عالي الكثافة وبتلوينات متباينة إلى حد التناقض، فثمة بواعث معرفية وثمة اعتبارات أيديولوجية وثمة توجهات انتهازية أفرزت ضروبا من الالتباسات التي كان لها كبير الأثر في تشكيل اتجاه الخطابات النهضوية بشتى مساراتها!
طرْح هذا المصطلح كثيرا مايثير جدلا واسعا وردود أفعال متشنجة ولاغرو فطغيان المألوف وسلطة الإتجاه السائد والانكفاء على الذات والتمحور حول مواضعاتها والتسليم لمن سلف والاستسلام لعبارة «ما ترك الأول للآخر شيئا» كل هذا يحمل الذهنية المتوجسة والمثقلة بقيود القولبة والتقنين والمنحازة تلقائيا إلى خيار السكونية على رفض»التجديد»بل والنفورمن هذا المصطلح الجدلي والفرار منه كما الفرار من الأسد أو على أقل تقدير التعاطي معه بقدر كبير من الارتياب وتعميق الشكوك فيه وعلى نحو يجعلنا أمام احد الصور المنعكسة عن الوهن والخوف وسيطرة الرؤية الأحادية البعد، واذا كانت هذه النظرة الموغله في الممانعة هي أحد عوائق الانبعاث فإن أسوا منها تلك الرؤية المؤسسة على أولوية العلاقة الاتصالية مع الآخر المغاير تماما واعتبار منظومته المعرفية هي النموذج المعياري الوحيد للتمثل والاستلهام والمحاكاة! .
أن تجديد الخطاب الديني ضرورة تفرضها اشتراطات اللحظة المعاصرة والتي يتعذر حضورها وشهود ماجرياتها والتّماس الفاعل مع مفرداتها وضبط إيقاعها وترشيد سياقاتها يتعذر كل ذلك من غير إعادة صياغة هذا الخطاب وعلى نحو يستهدف تنقية الدين وتجريد أطره المرجعية من التصورات والمفاهيم الخاطئة الذي تراكمت عليه وتجريد النصوص التأسيسية الأولى مما علق بها من تحريف ضال أو تأويل جاهل أو انتحال مبطل أو اجتهادات تشكو ضمورا في منحاها المعرفي وتضاءل حظها من الموضوعية وعلى نحو أضعف فاعلية النصوص وشوه تشكلها في قالبها الأولي المجرد.
جدلية التجديد والتجميد تحضر وعبر مواقف وحيثيات جدلية متفاوتة فبالقدر الذي يتململ فيه الوعي العام من النمطية ومن الجمود ويبدو تواقا الى مبارحة ذلك النمط الاستاتيكي نحو آفاق التجديد والتغيير فإنه ومن جهة أخرى لا يخفي ارتيابه بهما وخوفه من أبعاد تجسيدهما وبشكل يحدوه للتشبث بمألوفه وإيثار الاخلاد إلى الارث الاجتماعي المعهود الذي كثيرا ما يتم توارثه دونما إثارة أي تساؤل!.
ان هذا التوجس من التجديد والقلق مما يترتب عليه من تبعات ليس محصورا على قطاع الجماهير فحسب بل هو ينتاب الشريحة الطليعية ويلامس شعورها وعلى نحو يقلل من فرص التقدم وبخطوات فاعله في هذا الاتجاه، هذا الخوف ليس له ما يسوغه وان كان بالإمكان تفهمه وذلك لأن الإشكالية في بعض السياقات ليست دائرة بين»تجديد/لا تجديد «إنها ليست مكتنفة بين «تجديد/وجمود» وإنما هي أنْأى من ذلك إنها مفتوحة على فضاءات أعمق أثرا وأشد حساسية ولا تخلو في معظم الأحيان من التوظيف الانتهازي المخاتل والذي كثيرا ما حاول إلحاق الاضرار البالغة في آلية التعاطي مع شبكة الجهاز المفاهيمي هذا السلوك العبثي يجترحه كثير ممن لم يُعطو بسطة في العلم والعقل وفقه أدبيات المعرفة التأويلية الأمر الذي جعلنا أمام مشهد تأويلي سيئت معالمه وشوهت فقهياته وأتيت أعرافه من قواعدها بفعل فعاليات طالما أوغلت في العبث وتمادت في الإسفاف وبلغت الدرك الأسفل من التزييف هذا التزييف الذي يمتهنه أولئك المعنيون بالترويج لكل ما يُعَرض القيمة التجديدية للعبث والتشويه المنظم،
إن الإشكالية في هذه المعادلة أنها تتكئ في معالمها على ثنائية»تجديد/ ت قويض»أي أنها تتشكل وتأخذ حيزها - المادي والفكري - في سياق تحضر فيه الضدية بكامل ثقلها وزخمها الحدي المتراكم كما يتجلي في تلك الأطروحات المنفلتة والتي تعج بالفوضى المستحكمة وعلى نحو جعلها تمضي بعيدا في مناكفة مضامين الوحي ومناهضة تقنيات التأويل، والاتكاء على تصورات مغلوطة بل وممعنة في الفصل الفج بين الديني والدنيوي وبشكل ضدي لازم!..يتبع
- بريدة
Shupandy77@gmail.com