كانت الحقبة الصعلوكية في الجاهلية خلال القرنين الخامس والسادس الميلاديين هي المرحلة الانتقالية في تاريخ العرب، التي هيأت الظروف الموضوعية لنجاح الدعوة وانتشار الإسلام، وبهذا المعنى تصبح كل مرحلة انتقالية ليس في تاريخ العرب وحسب، بل في تاريخ البشرية هي نوعية.
المراحل الانتقالية السابقة بما في ذلك الثورة الفرنسية، التي شمل تأثيرها أوروبا كلها والبشرية جمعاء لاحقاً، كانت انتقالاً من نوع من أنواع الاستغلال إلى آخر.
ثورات العبيد، وبخاصة في القرن الأول قبل الميلاد، كانت مرحلة انتقالية نوعية بامتياز، حيث نقلت اليونان وأوروبا كلها من العبودية إلى الإقطاع، وقد كانت تلك المرحلة مقدمة لإلغاء العبودية لاحقاً والتأسيس لإنشاء دول مركزية ذات مؤسسات، ولكنها لم تلغ الاستغلال.
انتقل العبد المملوك إلى (فلاح حر) ولكن إنتاجه بقي مملوكاً للإقطاعي، والسلطات التي تكونت بعد ذلك الانتقال رسخت وحمت ذلك الاستغلال، كما أن الإقطاعيين قبضوا من خلال أكبرهم (القيصر) على السلطات القضائية والتنفيذية والتشريعية والثقافية والإعلامية وكل ما يتعلق بالعلاقات الاجتماعية، بما في ذلك تسمية هذا أو ذاك فارساً، أو هذا العرق القبلي (نقياً) أم لا.
نقلت الثورة الفرنسية أوروبا من الأنظمة القيصرية الإقطاعية إلى النظام الرأسمالي، حيث حررت الفلاح (شبه العبد) من هيمنة الإقطاع وفتحت أمامه سوق العمل، كما أنها رفعت إنتاجيته من خلال الحقوق والعلوم والتقنية وغيرها وأشركته بالسلطة السياسية بكل مكوناتها من خلال مؤسسات المجتمع المدني، وبخاصة النقابات.
تلك الثورة العظيمة التي شملت بتأثيرها الحداثي البشرية كلها، لم تحرر المنتجين من الاستغلال، إنما نقلته إلى نوع جديد.
بعد الإطاحة بالإقطاع واستتباب الأمر للرأسماليين (الاستغلاليين الجدد)، تم الالتفاف على الإنجازات السابقة وأولها مؤسسات المجتمع المدني، حيث استخدمت المال الانتخابي لشراء أصوات ضعيفي النفوس، ونصبت عصابات منهم كقيادات لاتخاذ القرارات المناسبة للجشع الرأسمالي باسم (الديمقراطية)، فأصبح المال الانتخابي شرعياً في النظام الرأسمالي حتى وقتنا الحاضر.
سيطر الرأسمال على مفاصل السلطة كلها بواسطة المال، وبقي المنتجون الفقراء لا حول لهم ولا قوة سوى الإضرابات.
كانت الإضرابات العمالية هي الوسيلة الوحيدة ولكنها الفاعلة بيد المنتجين، وبالرغم من الثمن الباهظ المدفوع لذلك، فقد حققوا من خلالها إنجازات عظيمة تعيش الأجيال المتتابعة في ظلها حتى الآن.
تحديد ساعات العمل اليومي والراحة الأسبوعية والإجازة السنوية المدفوعة والضمان الصحي والتعليم المكفول والتقاعد ودفع أجور العمل الإضافي، كل ذلك وغيره لم يتحقق بين يوم وليلة، إنما عبر سنين من الصراع مع الاستغلاليين الذين استخدموا كل أنواع العنف الجسدي والاقتصادي (الفصل من العمل) والقضائي والتنفيذي والتشريعي والإعلامي والفكري والعقائدي والديني، وما شابه ذلك لمنع تحقيق تلك المنجزات.
الصراع في النظام الرأسمالي وما سبقه يُسمى صراعاً طبقياً لأنه يجري بين طبقة المالكين وطبقة المنتجين داخل المجتمع الواحد - بالرغم من تزامنه في أوروبا كلها - ولم ينجح النظام الرأسمالي في كبح جماح التطور بالعنف، فلجأ إلى تصدير الصراع للخارج بواسطة الاستعمار.
آخر ما استطاع الصراع الطبقي في أوروبا تحقيقه هو نشوء الاتحاد السوفييتي السابق، الذي كان مؤشراً لمرحلة نوعية جديدة في تاريخ البشرية للأسباب التالية:
أولاً: لا يوجد نظام استغلالي أعلى إنتاجيةً من النظام الرأسمالي يمكن أن يكون بديلاً له، ولذلك صاحب المصلحة في التغيير القادم هم المنتجون فقط.
ثانياً: التغيير القادم الذي سيكون بديلاً للنظام الرأسمالي وهو نظام يفتح الصفحة الأولى لأنظمة تتحكم بالسوق المسماة (حُرّة) وتبدأ الخطوة تلو الأخرى نحو القضاء على الاستغلال بكل أنواعه.
ثالثاً: الصراع الطبقي قد تطور إلى نوع جديد هو الصراع بين قلَة من المتنفذين عالمياً وسكان الأرض قاطبةً، فكما اكتشف ماركس في منتصف القرن التاسع عشر من خلال أول إضراب للعمال في أوروبا أن الطبقة العاملة هي المؤهلة لقبر الرأسمالية وأطلق نداءه المشهور - يا عمال العالم اتحدوا، اكتشف نعوم تشومسكي (أستاذ علم الفلسفة واللسانيات في جامعة ماساتشوستس حالياً)، من خلال أحداث وول ستريت 2011sep 17 أن نهاية الإمبراطورية الاميركية قد بدأت. الجدير بالذكر أن المتظاهرين في وول ستريت رفعوا شعار (يا سكان العالم اتحدوا).
رابعاً: تنحى الصراع الطبقي في عصرنا ليكون ثانوياً، بينما تقدم الصراع الاستعماري ليحتل المرتبة الأولى، ويحمل في طياته تغييراً ليس على صعيد الاستغلال وحسب، إنما على صعيد التحرر من الهيمنة الاستعمارية ومصلحة جميع شعوب العالم في الاستقلال السياسي والاقتصادي والتخلص من هيمنة القطب الواحد.
خامساً: استوعبت القوى العالمية المتصارعة أن العولمة واقعة لا محالة، ويجهد كل قطب من الأقطاب الصاعدة والآفلة لوضع شروطه على النظام العالمي الجديد، ولكن المواجهة بينها تجري على أرضنا وتستهلك ثرواتنا وتسفك دماءنا، لذلك نحن العرب معنيون أكثر من غيرنا باستيعاب مواصفات المرحلة والتعامل معها.
إذن المرحلة الانتقالية الحالية هي الأجدر أن تُسمى نوعية، وذلك لأنها بداية النهاية للاستغلال الذي بدأ مع بداية الحضارة الإنسانية حتى يومنا هذا، كما أنها لا تخص مجتمعاً بعينه إنما البشرية جمعاء.
تجهد القوى المضادة للتغيير بشتى الوسائل للحيلولة دون الانتقال إلى نظام لارأسمالي، يعتمد الحقوق ومصالح الأمم وليس الاستغلال مساراً لنظام عالمي جديد، ولم تع حتى هذه الساعة أن الفيل لا يمكن إدخاله في خرم إبرة، خصوصاً أن شعوب الأرض كلها تحولوا إلى (صعاليك) ولم يبق ما يخسرونه إذا ناهضوا الهيمنة الأحادية.
لا شك أن المرحلة الحالية لم تأت من فراغ، إنما نتيجة تراكم تجربة كانت مريرة في الكثير من المحطات، ومضيئة في أحيان أخرى، ولكن التجربة ليست تراكماً وحسب، إنما هي المقياس الأول والأخير للحقيقة، وهي المحور الأساس للمعرفة الاجتماعية والفردية، وبالتالي فهي محرك تطور الفرد والمجتمع والبشرية كلها.
الوعي الفردي تغذيه وتنميه عدَة عناصر لتراكم التجربة، تتضمن تأثير البيت والمدرسة والشارع والعمل والمؤسسات الاجتماعية العامة، كمؤسسات المجتمع المدني ومؤسسات الدولة، وبخاصة الإعلام.
الوعي الاجتماعي يغذيه العرف والعقيدة والتحولات الجماعية البطيئة، وكذلك التحولات الكبرى، سواءً في المحيط المحدود لكل مجتمع على حدة، أو المحيط الإقليمي والدولي.
الوعي الفردي والاجتماعي ليسا منفصلين عن بعضهما البعض، ويغذي كل منهما الآخر وهما في تفاعل مستمر عبر العلاقات الإنتاجية والمؤسساتية، ولكن المجتمعات مكونة من طبقتين أساسيتين هما: الطبقة المهيمنة ومن يدور في فلكها من الفئات الوسطية المناهضة للتغيير، والجماهير الشعبية ومن يساندها لإنجاز التغيير.
إبّان العبودية تنامى وعي الجماهير الشعبية المكونة من العبيد بالدرجة الأولى ضد الظلم القائم وتفجرت ثورات العبيد، التي بلغت ذروتها خلال القرن الأول قبل الميلاد، حيث برز التيار الليبرالي الذي نادى بتحرير العبيد وقاد تلك الثورات، والتي حققت الانتقال إلى القيصرية أو النظام الاقتصادي المسمى الإقطاع.
....يتبع
عادل العلي - الرياض