تقديم المترجم: انتهى كاتب هذه السطور قبيل أسابيع من ترجمة كتاب بعنوان «شجرة نسب السلفية الجهادية» وفيما يلي نص الفصل الثاني، وهو حوار مع المفكر الهولندي البروفيسور يوهانس يانسن عن الأصولية الإسلامية. أجرى المفكر والمؤرخ السويسري البروفيسور جان فرانسوا ماير الحوار مع المفكر الهولندي بروفيسور يانسن في أمستردام في 8 ديسمبر 2001. البروفيسور جان فرانسوا ماير هو مؤسس معهد «ريليجين سكوب» المتخصص بالدراسات الدينية.. وقامت بتفريغ المقابلة نانسي بيرك. ولد البروفيسور يوهانس يانسن عام 1942 وحصل على الدكتوراه في اللغة العربية.. وعمل لعدة سنوات مديراً للمعهد الهولندي في القاهرة.. ومنذ عام 1983، أصبح أستاذاً مشاركاً للدراسات العربية والإسلامية بجامعة ليدن في هولندا.. وتُرجم أول كتبه وهو «تفسير القرآن الكريم في مصر المعاصرة» (ليدن: بريل للنشر، 1974) إلى البوسنية والتركية، وطُبع مؤخراً في إندونيسيا.. أصدر 13 كتاباً في الدراسات الإسلامية، منهما كتابان هامان ومرجعيان باللغة الإنكليزية: «الفريضة الغائبة: عقيدة قتلة السادات والصحوة الإسلامية في الشرق الأوسط» (نيويورك: ماكميلان للنشر، 1986)؛ و«الطبيعة المزدوجة للأصولية الإسلامية» (لندن: هيرست وشركاه للنشر، 1997).. كما أنه مؤلف «ترجمة معاني القرآن باللغة الهولندية».. ويكتب بانتظام في الصحافة الهولندية والعالمية عن الدين.
الحوار
(ماير): قبل أن نتحدث عن كتابك «الفريضة الغائبة: عقيدة قتلة السادات والصحوة الإسلامية في الشرق الأوسط»، أود أن أسألك عن بعض التوضيحات حول استخدامك وفهمك لمصطلح «الأصولية» (Fundamentalism) الذي لا يوجد حالياً إجماع على تعريفه بين العلماء الذين يعملون في مجال الدراسات الإسلامية.. أنت لا تتردد في استخدامه حتى في عنوان كتابك «الطبيعة المزدوجة للأصولية الإسلامية».. أرجو أن توضح الأسباب التي دفعتك لاستخدامه في سياق الإسلام، بدلاً من مصطلح مثل «الإسلاموية» (Islamism)؟
- (يانسن): أنا أتبع تقريباً نتائج «مشروع الأصولية»(*) في جامعة شيكاغو الذي قَبِلَ استعمال هذا المصطلح للإشارة إلى تلك الحركات الإسلامية التي على استعداد لاستخدام القوة للوصول إلى أهدافها.. ليس كل الإرهابيين أصوليين، وليس كل الأصوليين إرهابيين.. وكقاعدة عامة، يختار الأصوليون عدداً قليلاً من النقاط الواردة في تعاليمهم الواسعة ويركزون عليها دون غيرها.
(ماير): يزعم عدد من المؤلفين الدارسين للأصولية أننا يجب أن نراها فقط كطموحات سياسية تتنكر في ثوب الدين.. ولكنك تؤكد على أن «الأصولية الدينية هي بلا شك متدينة» (الطبيعة المزدوجة، ص 2).. لقد ذكرتَ أن المرء لا يستطيع فهم الأصولية دون الأخذ بعين الاعتبار بُعدها اللاهوتي (ص. 5).. كما ذكرتَ أيضا أن هناك فرقاً كبيراً مع الحركات الجماهيرية السياسية، لأن الأصولية هي حلم ديني، وتُؤخذ الآخرة فيها على محمل الجد (ص 5-6).. أرجو التوضيح؟
- (يانسن): أعترف أن هذه النقطة قابلة جداً للنقاش.. فغالباً ما يُساء فهم الحركات الأصولية جداً.. أعتقد أن السبب الرئيس لسوء الفهم هو أنها ليست حركات دينية فقط، وليست حركات سياسية فقط: إنها «مزيج» من الاثنين معاً.. ربما كانت هناك أمثلة سابقة لهذا النوع من المزيج، ولكن الشيء المثير للاهتمام هنا هو أن الحركة الأصولية الإسلامية تملك كل الخصائص المميزة للحركة الدينية، وفي الوقت نفسه لديها كل الخصائص المميزة للحركة السياسية الحديثة.. الحكومة تقمعها وهي تريد أن تحل محل الحكومة.. وأعتقد أنه من المُبَرَرْ والمعقول أن نراهم كحركات دينية وسياسية في نفس الوقت.
(ماير): هل تفضل استخدام «الأصولية» في سياق إسلامي فقط لوصف الحركات ذات الأهداف السياسية والدينية، أو أيضاً لحركات أقل تسييساً مثل «جماعة التبليغ»؟.. وهذا هو ما فعله الباحثون في «مشروع الأصولية».
- (يانسن): لو كان لدي كلمة أفضل لاستعملتها بدون شك.. العالم الإسلامي، لأسباب محزنة جداً، هو أكثر عنفاً بكثير من المجتمعات المسيحية وغيرها.. وإذا كنت أصولياً في البلاد العربية، فيبدو أن استعمال القوة سيكون الخيار المنطقي الوحيد أمامك لإعلان وجهة نظرك، لأن هناك وسائل قليلة لنشر وجهات نظرك سلمياً.. لا يمكن انتخابك وليس لديك الحق في انتخاب من ترغب أن يمثلك.. وإذا تم رفض هذين الحقين وكان لديك ميول أصولية، فإن إمكانية حدوث رد فعل عنيف سيكون أكثر بكثير من رد الفعل المتوقع في السياق الأمريكي، أو الأوروبي أو غيرهما.. ولذلك تقع المسؤولية، في منطقة الشرق الأوسط، إلى حد كبير، عن الطابع العنيف للأصولية الإسلامية على القادة السياسيين والنخبة السياسية المهيمنة حالياً.. فالأصوليون يعكسون بالضرورة الطابع العنيف لمجتمعاتهم.
وبالإضافة لذلك، لست متأكداً من أن النقاش حول المصطلحات مفيد جداً.. فالجيولوجي يتحدث عن الكثبان الرملية والصخور ولا يستخدم تعاريف.. التعريفات ضرورية عندما ينشأ سوء فهم لما نعنيه.. ونحن نلاحظ اليوم حركة واضحة جداً يمكن أن نشير إليها ونحددها باستخدام مصطلح الأصولية.
(ماير): تشير عدة فقرات من كتابك «الطبيعة المزدوجة للأصولية الإسلامية» إلى أوجه القصور في منهج الباحثين الغربيين تجاه الواقع المعاصر للإسلام.. أرجو أن توضح أوجه القصور الأكثر شيوعاً في الطريقة التي يقاربون فيها الإسلام اليوم؟
- (يانسن): عندما تريد أن تعرف حقاً بماذا يفكر أو يعتقد شخص ما، لا يوجد أي مصدر للمعلومات أفضل من الشخص نفسه.. وفي سياق شرق أوسطي، هذا يعني أنه ببساطة لا يكفي أن تستمع إلى ما يقوله لك الناطق الرسمي باسم الحكومة.. ولذلك من الضروري جداً قراءة وتحليل ودراسة ما يقوله الزعماء الدينيون لأتباعهم.
وأعتقد أن هذا الأمر مهمل في كثير من الأحيان، ولكن ليس بدون سبب وجيه.. فالدبلوماسي، الذي يتلخص عمله في المراقبة والإبلاغ، يعمل ليكون لديه علاقة جيدة مع الحكومات المحلية، وليس ليقول لممثلي تلك الحكومات بأنهم سفاحون وقتلة.. ومن ناحية أخرى، عندما يريد مراقب خارجي معرفة بماذا تفكر وتؤمن وتأمل شعوب تلك البلدان، فمن الضروري جداً قراءة كتاباتهم الخاصة والاستماع إلى خطبهم وأن تغمس نفسك في مجتمعاتهم.. هذا الأمر ليس سهلاً ولكن لا بد من القيام به، وإلا فقد يغيب عنك تطورات هامة جداً مثل ما حدث قبل الثورة الإيرانية.. لم تتم - ببساطة - ملاحظة تقدم حركة الخميني من قبل العديد من الدبلوماسيين والصحفيين المتمركزين في إيران، لأنهم شعروا بأنهم ملزمون بمجاملة أصدقائهم من النخبة الإيرانية الذين كانوا عمياناً بالمثل ولم يلاحظوا ما يجري من حولهم، والذين فضّلوا بالمثل الاستماع إلى النسخة الرسمية من القصة.
(ماير): والآن نأتي إلى كتابك «الفريضة الغائبة: عقيدة قتلة السادات والصحوة الإسلامية في الشرق الأوسط»، ولكن قبل أن ننظر في النص نفسه، أظن أنه من المهم أن نفهم خلفية الحركات الإسلامية المتشددة المصرية.. أولاً، الوجود التاريخي لجماعة الإخوان المسلمين، وهي الحركة التي لعبت دوراً مهماً حتى فيما وراء حدود مصر.. هناك سؤال صعب عن روابط جماعة الإخوان المسلمين بالجماعات الأكثر راديكالية.. هل توافق على أن جماعة الإخوان المسلمين فَرَّخَتْ تقريباً كل الجماعات الأصولية المعاصرة في مصر والعالم العربي مع أن بعض الجماعات تركتها لاحقاً لخيبة أملهم فيها وقاموا بتطوير مناهج فكرية أكثر راديكالية منها؟
- (يانسن): كانت جماعة «الإخوان» طبعاً أرضاً خصبة لتجنيد كل هذه الجماعات الصغيرة.. كما أنها أنشأت أيضاً «الجهاز السري» الذي ظنت جماعة الإخوان أنها بحاجة إليه لحماية نفسها من الشرطة والبريطانيين.. وكان ذلك الجهاز بداية لـ «ماكينة إرهابية صغيرة».. ولذلك لا يمكن إنكار أن الإخوان، وبالتأكيد حتى الخمسينيات والستينيات ارتكبوا أعمالاً إرهابية.. وكانوا في الثمانينيات والتسعينيات وحتى اليوم، بيئة خصبة لتجنيد عناصر لصالح حركات أصولية أخرى.. ومن ناحية أخرى، حدثت تغيرات نوعية في أنصار الإخوان ودخلوا الآن في السياسة الحزبية.. ولكن خسرت تلك العناصر التي دخلت اللعبة السياسية السحر الخطير الذي كان سر جاذبية الإخوان.. يقول البعض: لتكون عضواً في جماعة الإخوان المسلمين، لا يعني أن تقوم بأي نشاط، بل هي حالة ذهنية (أي فكرة).. تلك الحالة الذهنية قد تجعل الناس أكثر عرضة للتأثر بالبروباغاندا الأصولية.
........................................ يتبع
هوامش المترجم:
(*): «مشروع الأصولية في جامعة شيكاغو»: هو مشروع بحثي رعته «الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم» وهو عبارة عن دراسة علمية دولية للحركات الدينية المحافظة في جميع أنحاء العالم شارك فيها أكثر من 200 باحث دولي وشملت الدراسة الأصوليات المسيحية واليهودية والإسلامية والهندوسية والبوذية والسيخية.. بدأ المشروع في عام 1987 واختتم في عام 1995، وأشرف عليه كل من البروفيسور مارتن إي مارتي والبروفيسور آر. سكوت أبليبي وهما عالمان أمريكيان مرموقان متخصصان في الدين والتاريخ، على التوالي.
مفهوم الأصولية التي نتج من هذا المشروع ثار حوله جدل إلى حد ما.. ولكن حتى أولئك العلماء الذين انتقدوا الافتراضات التي بُني عليها المشروع يعترفون بأن هناك كمية كبيرة من المعلومات التجريبية المفيدة في المطبوعات التي انبثقت عن هذا المشروع.. صدرت عن المشروع خمسة مجلدات موسوعية - عبر قسم النشر بجامعة شيكاغو - تشرح الأصوليات في العالم كالتالي:
المجلد -1: الأصوليات كما لوحظت (1991)؛ و
المجلد -2: الأصوليات والمجتمع: استعادة العلوم والعائلة والتعليم (1993)؛ و
المجلد -3: الأصوليات والدولة: إعاد تشكيل الأنظمة الحاكمة والاقتصاديات والحروب؛ و
المجلد -4: محاسبة الأصوليات: الطابع الديناميكي للحركات (1994)؛ و
المجلد -5: الأصوليات كما فهمت (1995).
خصائص مشتركة للأصوليات
وخلصت الدراسة إلى أنه، بغض النظر عن نوع الدين، تشترك جميع الأصوليات بعدد من الخصائص المشتركة مثل:
(أ) الرجال يقودون وتتبعهم النساء والأطفال.. وتخضع الزوجات لأزواجهن.. وفي كثير من الأحيان، تخضع الأخوات لإخوانهن.. دور المرأة في الحياة هو أن تكون ربة منزل؛ و
(ب) القواعد الدينية معقدة وجامدة ويجب أن تتبع حرفياً وقسراً.. ولذلك، ولتجنب أي تمرد، يجب عزل أطفال الأصوليين في بيئة تضم أتباع مثل هذا التفكير، وبخاصة في دراستهم؛ و
(ج) لا يوجد تعددية وتُطبق الأصولية قواعدها على الجميع في كل مكان؛ و
(د) يتكون المجتمع من مجموعة ملتزمة من الأصوليين ويعتبر جميع الآخرين «أغراباً».. الأتباع تجب رعايتهم والاعتناء بهم.. وينبغي «قتال» الأغراب؛ و
(هـ) يتوق الأصوليون لماضٍ كان فيه دينهم نقياً، وإلى حد كبير لم يعودوا يرونه حالياً على هذا النحو.. وفي كثير من الأحيان، ذلك الماضي «لم» يكن حقاً بتلك الصورة المثالية.. ولكن لديهم وجهة نظر متحمسة وتحن بقوة لماضٍ طوباوي ويسعون لتحقيقه رغم استحالته. (العيسى)
ترجمة وتعليق: حمد العيسى - المغرب
Hamad.aleisa@gmail.com