د. سعد بن عطية الغامدي
دون بحر.. ودون نهر.. لا شطآن تذكر هذا عن الجغرافيا.. ماذا عن الشعر وما يعنيه الشاعر عن شطآنه الظامئة؟!
بداية عن بيروت في زمن الحصار.. لم يكن ظمؤها البعاد عن البحر فهي مطلة عليه ترقص أمواجه تحت ساقيها.. أنه ظمأ أمان كانت تعيشه وتوارى على وقع القذائف والقنابل وصرخات المرعوبين
بيروت يا طفلة في الهول تنتحب
وترسل الدمع مدرارا وتضطرب
قميصها قطعة سوداء بالية
وعاشقاها هما البارود واللهب
سوادها سواد مأساة رغم جمالها طبيعتها.. ونضارة خضرتها.. يسترسل شاعرنا في توصيفه لمشهد الهول:
الليل يفزعها والفجر يوجعها
واليأس يتبعها.. والموت يقترب
قد نام كل خلي عن مواجعها
وأهلها -دون خلق الله- قد هربوا
وصف لأحداث خلت.. أرجو ألا تعود.. اكتفي بهذا القدر من مقطوعته الشعرية المعبرة اتاحة لفرص كثيرة منتظرة ونسمة خيال تتوقف أمامها كي نملأ رئتنا.. وننشط خلايانا استعدادا لما هو أبعد.
أمن عينيك تنسكب القوافي
وفي خديك تزدهر الفيافي
ومن جفنيك يحملني خيال
كخيط من بقايا الليل غاف
ومن شفتيك يسكرني رحيق
شفيف رائع القطرات صاف
وأقرأ في جبينك ألف بيت
محلقة القوادم والقوافي
خيا ل أنت! من قلمي وشعري
وعند الله غاية كل خاف
ماذا ابقيت يا شاعر.. لقد رسمتها لوحة إبداعية تتساوى وقسمات وملامح وأوصاف من تهوى.. (نداء) تسكنه الضراعة.. وتستبطنه مشاعر غياب قد يأتي.. إنه وجع الرثاء والوفاء.
أنينك يا (نداء) صدى أنيني
ودمعك اذ بكيت قذى لعيوني
اللام في كلمة عيوني متطفلة يحسن اسقاطها كي يستقيم الشطر.
حملت إلى الطبيب فصار قلبي
أسيرا للمخاوف والظنون
وتهدأ كل عاصفة.. لعلمي
بأن يد العناية تحتويني
وما جزعي مخافة ان تموتي
ونحن حصاد سارحة المنون
ولكن لا اطيق العيش وجدا
أفر من الشجون إلى الشجون
ويفزعني ارتجالك وهو حق
إلى المجهول والسر الدفين
ومنك دانت في الأعماق مني
صفاء الروح والفم والجبين
رائعة ثانية تفيض ولها وخشية واحتسابا لما تجري به المقادير.. قمة الإيمان بالقدر أتجاوز بعض المحطات.. تستوقفني لافتة تحمل هذا العنوان: (خواطر مسافرة)
هذه أنت بعد طول رحيلي
وانقطاعي وغربتي وافولي
وحناني الى صباح شفيف
واستياقي إلى مساء جميل
تخيلها نخلة مثمرة عطشى هو بالنسبة إليها الغيث الذي يقتل الجفاف.. تصورها الشمس بعد طول احتجاب كالنسمة الندية كالأزاهيركالأماني كالظلال الوارفة.. رسمها فينوسا لمثها بمداد قلمه... وبنبضات شعره وخفقات مشاعره وانتهى إلى الأمنية
غاية الفؤاد أن المؤمل عيش
هو ابقى من ناقص محمول
شاعرنا الغامدي يناجي وطنه:
للمجد فوق ثراك طيب مغاني
وله إليك مطالب وأماني
وعليه منك مهابة وجلالة
وعليك منه دلائل ومعالي
ويفوق به الخيال في فضاءات الوطن، وفي مرابع قدسيته.. جبل حراء، منى، عرفات كتائب الأبرار وهي تستبق الخطى بناء للروح والبدن.. وأشياء كثيرة عن وحدته
اليوم نبني وحدة عن دعوة
كبرى ونصدر عن أعز مكان
ونسير باسم الله تحت كتابه
نملي بيان تحرر الإنسان
ونقيم ميزان العدالة في الورى
هل غير شرع الله من ميزان؟
اكتفى بهذا القدر من مقطوعته الطويلة الجميلة.. إلى قصيدته (الشهيد.. أقتطع منها بضع أبيات
لله في الرسالة والرسول بيان
يغني إذا خذل الفصيح لسان
ينبئ بن الحق ينطقه دم
ويقيمه فوق الذرا جثمان
وتمده القضبان من عزماتها..
لهبا وتوقد فجره الأكفان
ليعز عن عرض ويسمو عن اذى
ويقوم فوق جبينه البرهان
فذا النفوس على البلاء عصية
وإذا الحتوف شهادة وبيان
مقاطع معبرة تختزل صورة الشهيد وهو يقدم دمه عربونا من أجل وطن، وعقيدة.. ووجود..
(مجد الأوراق) يعني به شاعرنا على ما أحسب مجد المفلسين.. أو القاعدين أو المتقاعدين الذين لا يكثون ولا ينشون وقد تجاوزهم قطار المركز والجاه والوجاهة.. إنه يقول:
قالوا.. تقاعد فانطوى الأصحاب
وأشاح عنه وأعرض الأحباب
وتفرق الربع الحميم كأنما
صعقوا وبُدِّل بالحضور غياب
وتنكرت تلك الوجوه لوجهه
وتساقطت - أن نودي الألقاب
يسترجع الماضي الذي تحطم على صخرة الجحود والتنكر:
أين الذين حديثهم لا ينقضي؟
فسؤالهم فوق الوجود جواب
أين الذين خطاهمو لا تنثني
يسعون والسعي الحثيث مجاب
هجروه إذ هجر الوظيفة مثلما
هجرت قبور بعدنا.. وتراب
(مات من عاش لنفسه) عنوان جديد من عناوين شاعرنا الكثيرة.. أن يكره الذات ويرفض الأنانية والنرجسية:
لم يعش من عاش في الدنيا لنفسه
غارقاً في موكب صيغ على أوهام حسه
وصنوف من ملذات حواها ليل رجسه
هو ميت عاف الموت فأمسى دون رمسه
لم يعش من همه هم على الأرض قريب
كسرة أو مركب، أو حلة تبلى وثوب
أو فراش مات عنه الرجس والليل المريب
أو هوى أو قد في أحشائه النار جليب
ومن داء الموت إلى (دفء الأماني.. حيث يقول:
أيقظ الشوق دافئات الأماني
والجوى يشعل الجوى في الجنان
فسرت في الجفون نسمة طيف
وجرت في الضلوع نجوى حنان
وحسبنا بأننا.. والنجاوى
سابحات نطوي حدود الزمان
إن يكن في الحياة طيب خيال
فهو أحلى بالناعمات الحسان
أبيات أربعة اختصرها شاعرنا ولخصها إحساساً منه بأن الأماني شوق وجوى وطيف ونجوى حنان..
والسؤال من يملك الدفء كي يحرك عجلة الأماني في أرض ترابية مليئة بالنتوءات؟
(لوعة الوجد) أيضاً محطة توقف قطار الرحلة عندها:
لوعة الوجد في دجى الأشواق
ايقظت في الغريب دمع المآقي
فمضينا إلى رياض التلاقي
وأذينا أشواقنا في العناق
وطوينا من الصباح جفونا
وحبسنا الفراق دون الفراق
فانزعيني من ايكتي ورياضي
وازرعيني في واحة العشاق
لا ندري هل استجابت لرغبته ونزعته من ايكة ضاق بها.. وزعته في واحة يعشقها.. السر في بطن الشاعر.. و(نجمة وسراب) رباعية تجمع بين البريق.. والسراب الموحش.. شاعرنا جمع بينهما..
ستظلين نجمة في سمائي
رغم قصف الرعود والانواء
ستظلين لمسة من حنان
وبريقا في موحش الظلماء
أنت روضي روَّيته بخيالي
وبشري ولهفتي وانتشائي
فلماذا وانت غيمة عمري
تشعلين السراب في أحشائي؟!
سؤال له ما يوجبه.. أعرف أن شاعرنا.. ومع هذا يسأل..
ومن سره الدفين اجتزئي بعضاً من أبيات سره
رب سر في الحنايا مستكين
غامض كالغيب مكنون دفين
كالصدى الخافت في رجع الأنين
كالمدى الباهت في سمع السنين
ألهب الاحساس في القلب الحزين
أغرق الاجفان بالدمع السخين
ماذا تريده أن يفعل أكثر من هذا.. ولا أقل من هذا.. تلك وظيفته التي وجد من أجلها كي نتعذب.. هذه المرة شاعرنا الدكتور الغامدي يطلعنا أن نتريث معه.. ان نتحرك رويداً رويداً لماذا؟!
يلاحقني أينما يممت
خطائي ويسري رويدا رويدا
انه الطيف الجميل الذي يمشي بخطى وئيدة.. وعلى فارسه أن يترجل من صهوة فرسه.. وان يمشي في بطء هذا كل ما في الحكاية.
أخيراً شاعرنا يريد شد الرحال وقد أوصلتها قطار إلى آخر محطاته.. ربما لرحلة قادمة مع فارس جديد يعيد الينا ذاكرة الشعر بنكهة جديدة.. ويشعر جيدا كما هي التجربة مع الصديق د. سعد بن عطية الغامدي.
شدى الرحال فهذي الشمس تنحدر
إلى المغيب وهذا لليل ينتشر
شدي الرحال فهذي الريح قد سكنت
إلى الرحيل وهذا العمر ينحسر
شدي الرحال فما في الأمر متسع
للحزن يعصف أو للدمع ينهمر
واستنهضي كل فجر لفه وسن
واستوقفي كل نجم شفه خبر
ما نلت باللوم حظا إذ شقيت به
ولا شفيت بغيظ بعض ما أزر
ان كان سرك سقمي فالحياة لها
وجهان لا باسر يبقى ولا نضر
او كان غرك صمتي فالنفوس لها
حالان منقبض منها ومنتشر
عللت بالصبر قلبي ربما سكنت
علاته ومضى في ركب من صبروا
كي لا يغرق.. ولاتغرق.. وكي لا يفرقان معا ناشدها ان تمد يديها وسط بحر هائج متلاطم الأمواج.
مدي يديك فهذا البحر ذو لجج
تغتالها لجج والموج يستعر
مدي يديك فكم طافت على وجعي
منك اليدان وطابت فيهما الصور
طابت أيامكم جميعاً دون وجع.. ودون فجيعة.. ودون غرق.
الرياض ص. ب 231185 - الرمز 11321 ـ فاكس 2053338