1- يغرينا منطق القراءة ذاته بالتساؤل عما حدث بعد تجربة الحب الأول، وسنجد عناصر الإجابة في النص بعنوان «تقاعد غير مبكر»، حيث يقدم القول الشعري ما يشبه الخلاصة التأملية المكثفة لحياة الشاعر وتجاربه. فهاهو يقف على أبواب الخمسين ليقلب أوراقه فيدرك أن عمره قد توزّع مذ كان صبيا بين شخصيتين لا كبير انسجام بينهما، وهنا مفارقة أكثر عمقا واتساعا من سابقتها لكنها متصلة بها.
فهناك شخصية الموظف العادي الذي ظل يؤدي واجباته المكرورة مدركا أن التصحُّر يحاصره ويهدده بالاستلاب كأي عامل مستأجر، وشخصية المبدع الذي يعي طاقاته الخلاقة ويظل وفيا لنصوصه الجمالية الحميمة واعيا أنها خير ما يمثله وعينه على التحرر من كل حصار واستلاب. وهنا أيضا يحضر الحب عنصرا مركزيا طالما لملم شتات الذات فضمن لها وحدتها من جهة، وعزّز تفاؤلها بالحياة وتعلّقها بأجمل ما فيها من جهة أخرى:
وفي صفحة البدء تلك القصيّة في النص
شقّ الصبي غلالته، واشرأبت يداه
وأدخلني في عيون التفاصيل
حتى عشقت الحياة
هو الحب
أول ما يتبدّى لنا مثل مسٍّ من الجن
أو لغة لم نجد بعدُ أحرفها
كي نبوح بما يتخلّق:
من رفة العين للعين
من لذعة الكف في الكف
ومن هزة القلب حين تداهمة رعشةٌ
فيفرّ إلى دمه صائحا...
آه.. آه.
فالخطاب هنا أيضا مزيج من الذكريات والتأملات المصاغة وفق منطق التخييل الشعري، والرهان يتمثل في استعادة الماضي لا في سياق الحنين إليه أو التفجع عليه بل إحياء لأجمل تجاربه، وهي تجربة الحب التي اتسعت آفاقها وتنوعت أبعادها بانتظام. هكذا تنبئ التعبيرات عن تجربة محورية أصبحت أكثر واقعية وكثافة بما أنها تحققت متعة مختبرة تستقر آثارها في أعضاء الجسد وكلمات النص على حد سواء. وتشبّع هذا البعد الحسي -الجسدي- هو ما يبرر الاحتفاء بالحب قيمة عليا يتم تصعيد دلالاتها الرمزية لتبدو حالا من تلك الأحوال التي تُعاش ولا تعرّف إلا رمزا:
هو الحب
لا صفة تترقى إلى وصفه
ليس من بدل يتطاول في أخذ موقعه في الكلام
ولا شيء يشبهه غير ما يتنزل في الروح
من وحيه وضلالاته وهداه (ص 38).
وهناك مقاطع أخرى تدل بشكل صريح على أن الذات شربت من نبع الحب حتى ارتوت وثملت، خاصة بعد أن تحرّرت وأدركت أن تأثيم علاقة إنسانية جميلة نبيلة كهذه لم يعد واردا. ولأن هذه الرؤية البشرية الدنيوية علامة وعي جديد ومصدر اختلاف عن ابن حزم ألمح إليه الشاعر في النص السابق، فهو يلح عليها غير مرة وبعديد الصيغ وكأن فعل الحب وفعل الإبداع صنوان لا يفترقان إلا ليلتقيا:
كأن الذي بيننا الآن
طيرٌ بلا اسمٍ ولا لغة أو مكان
بلا قفصٍ أو رهان
بلا رهبةٍ من جراح الذنوب
و لا رغبة في ندى المغفرة.
2- المبدع المحب كائن غيري بامتياز بمعنى أنه يبدع لإشباع طاقاته وتحقيق ذاته وطموحاته الفردية الخاصة دونما شك، لكن فعل الإبداع ذاته لا يلبث أن يؤسس لعلاقات حرة تنفتح بالضرورة على كل غير وآخر، وفي المستويين الجمالي والإنساني.
من هذا المنظور يكتسب النص بعنوان «وصيّة» أهمية مزدوجة حيث يمثل جسراً واصلا ما بين البعدين الشخصي والاجتماعي في تجربتي الحب والكتابة، فضلا عن كونه يلقي ضوءا مكثفا على التحولات الجذرية التي طرأت على وعي الشاعر وعلاقاته بالعالم من حوله.
فالطفولة مختبر التجارب الأكثر تأثيرا في حياة كل منا، والعودة إليها في مرحلة متقدمة من العمر والوعي تنم عن قصد لا يخفى على القارئ لأن عملية التلفظ ذاتها تلح عليه. فها هو الشاعر المثقف يتوجه بوصية ماكرة لابنه عبر وسيط مثالي هو الأب (جد الحفيد) بما هو ممثل واقعي ورمزي لإحدى أقوى السلطات في مجتمعاتنا التقليدية، وخاصة القبلي منها. والموضوع يدور حول المرأة لأن الأب مثله عادة ما يربي أبناءه على قيم ذكورية فجّة تضعها في مرتبة دونية وتعدُّها موضوعا للمتعة والإنجاب والخدمة، وتبرِّر ممارسة العنف عليها حتى ليلة العرس (الافتراع)، والنتيجة صنوف التشوهات النفسية والسلوكية التي يعيشها كثيرون كوضع طبيعي معتاد، بل قد يرونها فضائل أخلاقية!
هذا النمط من الوعي الخاطئ نظرا ومسلكا هو ما يرفضه الشاعر ويصر على فضحه والقطيعة معه ومع الثقافة التي تؤسس له وترعاه لينتقل من جيل إلى آخر كالمرض الوراثي. فالنص يستهل بعبارة نافية: «لم أقل لأبي»، وتظل تتكرر في غير جملة شعرية وكأن الذات قررت أن تستعيد طيف الأب بصيغ تراوح بين العتاب الحميم والإدانة المبطنة، لأنه لم يكن ينصت لأي من أبنائه فضلا عن أن يشاركهم مشاعرهم ويتفهّم حاجاتهم العاطفية.
إننا أمام بوح اعترافي بالاختلاف ظاهرا، لكنه لن يخلو عند التأويل المعمق من دلالة «القتل الرمزي» للأب وبالمعنيين النفسي والأنثربولوجي للمفهوم.
ويتعزّز هذا البعد الدلالي من وجه آخر، حيث إن للفعل عند الشخص المثقف المبدع وظيفة جوهرية تكمل لحظة الفطام في مرحلة سابقة، لأن الاستقلال بالذات الفردية وتنمية طاقاتها الخلاقة، فكراً وإبداعاً، يتعذر تحقيقه من دون قطيعة جذرية مع الرمز الأهم لتلك الثقافة الذكورية التي تبرِّر مختلف أشكال الكبت والقمع.
طبعاً، نحن نعلم جيدا أن سيرورة تطور وتحول كهذه لا تكون خيارا واضحا منذ البدء، لأنها عادة ما تتحقق على مدى طويل، وضمن شروط لا يمكن التنبؤ بها مسبقا، ولا ينجح كل أحد في كسب رهاناتها وتحمّل تبعاتها.
فشاعرنا خاض تجارب السفر والتعلم والحب والقراءة والكتابة بعيدا عن بيت العائلة وسلطان الأب، ولذا تمكن من التواصل مع الآخرين تواصلا حرا أغنى خبراته ونمّى لديه وعيا مختلفا بالذات والعالم عموما، وبالمرأة، ضحية الضحايا، بشكل خاص. ولا شك أن حياته الطويلة في المنطقة الشرقية لعبت دورا حاسما في هذا السياق، حيث جذبت أرامكو -عنوان الحداثة التقنية ورافعتها الأقوى عندنا- فئات اجتماعية متنوعة من مختلف المناطق أفرزت لاحقا نخبة ثقافية جديدة تواصلت بشكل فعّال مع الخطابات الجديدة التي سادت في المشرق العربي منذ الخمسينيات، ولعل الخطابات التقدمية بشقيها القومي والأممي كانت الأكثر جاذبية لدى شباب ذلك الجيل.
وإذن فالعودة إلى مرحلة الطفولة من هذا الموقع هو خيار كتابي متعدد الوظائف، حيث يؤمِّن للنص الشعري مسحة درامية جذابة، ويضمن له نبرة حميمية ذات صدقية عالية، ويعلن الاختلاف الجذري مع الماضي ورموزه السلبية. هكذا تنكسر البنية الدائرية نهاية النص بفضل انحراف أسلوبي يبلور الموقف الراهن للمبدع المرهف والأب الحنون والمثقف الحديث فيما هو يكشف لابنه -مجاز الجيل الجديد- الخلل الذي عاناه بأمل ألا يكرّر الدور فيكرّس الأعراف والقيم عينها:
يا أبي خانني ما توهمته في الصبا
حين خلت النساء سواء
اللواتي ملأن كتابي بأوصافهن
واللواتي تخفين في ضعفهن
واللواتي حذقن التشابه
حتى عشقت السواد الذي يشبه الأصدقاء
ولهذا تفرق قلبي هوى في القبائل
من ذا يدل عيوني عليه؟
** ** ** **
يا أبي لم أقل في الصبا ما يسرّ الفتى لأبيه..
وهنا سأسِرُّ لأبني بما أنا فيه.
وخلاصة القول إن هذه الشخوص الفردية مجازات لغيرها، والتركيز على علاقات الاتصال والانفصال فيما بينها هو من قبيل الدراما العائلية التي تشخّص اختلاف المواقف من منظور نقدي صارم لا يتهيب فضح ورفض أي ثقافة تتنكّر لحاجات الإنسان السويّ في كل من الرجل والمرأة.
بدهي إذن أن القطيعة لا تتم انتقاما من الشخص أو رفضا للثقافة التقليدية عموما، بل انتصارا لوعي جديد يتشكل في الراهن ليؤمن حاجات جيل قادم يفترض أن يتحرّر من أي أفكار وقيم لا تؤمِّن له حقوقه في الحب والسعادة، ولا تنسجم مع روح العصر والقيم الإنسانية الحديثة بكل بساطة.
ولا تستبعد القراءة التأويلية أن غياب الأم عن المشهد الدرامي المتوتر يدل بطريقة السلب على حضورها الحاسم في بقية مشاهد الحياة الحميمة السعيدة، ولعل كل امرأة محبوبة مجاز لها، خاصة عند المبدع الذي يظل يناجي صور الطفل الكامن فيه طوال حياته.
3- مواقف الشاعر من ذاته وعالمه دالة بذاتها على أن الفصل بين الحب ومنظومة القيم والأفكار الإنسانية الجديدة غير وارد عنده وأمثاله من المبدعين التقدميين من مختلف اللغات والثقافات. لقد أصبح يعي ويعلن صراحة أنه فاعل اجتماعي نشط، ومبدع «ملتزم» يعد الإبداع مشاركة جمالية في تعزيز هذه المنظومة لتدخل ضمن علاقات المجتمع الذي ينتمي إليه انتماءه للعالم الواسع.
ونستعيد مفهوم الالتزام، الذي كتب فيه الكثير، وربما تحول في مراحل معينة إلى شعار مبتذل، لأنه يصل بين شخصية الشاعر الخلاق وشخصية المثقف الفعّال، ومن يؤمن به حقا فعادة ما يطبقه قولا وعملا حتى وإن دفع الثمن وتوقع الخسارة تلو الأخرى كما هي حال علي الدميني وأمثاله ممن ضحوا بالكثير فأصبحوا رموزا مشعّة في الداخل والخارج.
من هذا المنظور هاهو يكرِّس بعض نصوصه الشعرية ليحتفي بالنساء اللاتي طالبن بحقهن في قيادة السيارة، وينتصر للمرأة التي أحبت وتزوجت وأنجبت على الضد من تقاليد الأسرة (فاطمة العزاز) ويخلد ذكرى الصديق المبدع الذي يشاركه وعيه وحلمه ومعاناته (سيد علي العوامي وعبدالعزيز مشري، وآخرون كثر في مجموعات أخر).
ولاشك أنه يفعل كل هذا من الموقف الفكري -الإيديولوجي- ذاته، وقد نتفق أو نختلف معه لكن أحدا لن ينكر أن علاقات التعاطف والصداقة والوفاء هي قيم مبدأية لا تنفصل عن مسار الحب المتسع الذي اختاره الشاعر أسلوب حياة وأسلوب كتابة وتواصل.. وهذا ما يجعل الثقافات التقليدية تتخوف منه وتحاصره باستمرار. وهي كثيرا ما تنجح في هذا المسعى لأنها تلجأ إلى توظيف مقولات العيب والحرام والممنوع لتخلط القبلي بالديني والسياسي فيتوهّم الناس العاديون بأن هذه هي أسس الهوية وعلامات الخصوصية التي لا يعارضها أحد إلا وعادى مسلمات العائلة القرابية والجماعة الوطنية والأمة الدينية!
وتزداد القضية تعقيدا وحِدّةً بالنسبة للمثقف الذي يضطره وعيه ذاته لتسمية الخلل ومحاولة كشفه وتجاوزه فيدخل في صراع مفتوح مع عديد السلطات التي تعيق علاقات الحب بعد أن تشوّهها في الأذهان والأعيان!. وبدهي أن حروب المفاهيم والقيم الثقافية المعرفية والجمالية مرتبطة أشد الارتباط بحروب المواقع والمصالح، وهذا تحديدا ما يرشح الإشكاليات والمفارقات لمزيد من التمدد والتعمق ما لم تتغير البنى العميقة للثقافة السائدة.
4- هل هذه القراءة متحيزة لعلي الدميني صديقا ومبدعا؟
نعم، والمقام ذاته يبرر الاحتفاء بشخص طالما أثار إعجابنا واستحق احترامنا ومحبتنا، وبنصوص كثيراً ما أمتعتنا وألهمتنا. لقد عرفت علي الدميني منذ أيام الدراسة الجامعية، وما عرفته إلا وهو يراوح بين صورتين لنموذجين ثقافيين فاتنين كل الفتنة بالنسبة لأمثالي. فهناك نموذج الشاعر الصعلوك الذي ما إن يعي فرديته ويختبر حريته حتى يخرج على القبيلة ليعيش ويكتب ضد تقاليدها التسلطية، ومن هذا الموقع البطولي قد يلامس حد الأسطورة لأن فشل المشروع الجماعي يقابله نجاح مشروعه الفردي المتمثل في نصوص وحكايات يتكفّل الزمن بحفظها ونشرها حتى خارج حدودها القومية واللغوية.
النموذج الثاني يخص المثقف النقدي الذي لا يفوضه أحد للنيابة عن المجتمع، لكن وعيه عادة ما يدفعه إلى كشف الحقيقة والدفاع عن قيم الحق والخير والجمال واثقاً أن هذا مبرر وجوده ورهان حياته، وهذا ما قاله وفعله مفكرون بارزون منذ سقراط حتى إدوارد سعيد.
وأخيرا فلعل من يقرأ قراءتنا من هذا المنظور المتّسِع سيدرك أنها تندرج ضمن مقاربات سابقة طالما انحازت لفكر المحبة وقاومت فكر التوحش الذي يحاصرنا ويهدد أجمل ما فينا وما تبقى لنا من معاني الحياة النبيلة الجميلة.
وختاما لهذه الفقرة نعود لبلورة الإشكالية العامة التي ألمحنا إليها في البدء، وهي إشكالية حضارية لم تحسم بعد ولن تحسم في المدى القريب. فالحب الذي يشمل المرأة والأصدقاء والإنسان متصل بكل ما في الحياة من قيم الحرية والحق والعدل، وهذا ما يجعل الثقافات التقليدية.