علَّمونا قسراً، وأدخلوها في عقولنا الشابة الحالمة، أن نحارب الاستعمار، وجاءوا لنا بأحزاب في برامجها حلم التغيير وحلم السعادة وحلم التحليق في فضاءات حرية الإبداع.. فناضلنا في السر والعلن ودخلنا معتقلات وتحملنا التعذيب في بيوت أُطلق عليها فيما بعد بيوت الأشباح.. ونحن الآن على قيد الحياة بطريق الصدفة.. محض صدفة!
لم يخبرنا أحد ولا مرة واحدة سوى عندما كبرنا وصرنا نغوص في أوراق الكتب، فوجدنا أن دعاة الفكر اليساري كانوا حددوا معالم شعوب بلدان العالم الثالث بوصفها العالم المتخلف.. إذ كان ينبغي على هذه الشعوب وحتى تتجاوز مرحلة التخلف أن لا تحرق مراحل طبيعية ممثلة بالانتقال من مرحلة الإقطاع والعبودية والكهنوتية إلى مرحلة التطور الرأسمالي وحتى التطور الوسط الذي أطلق عليها كبار مفكري الاشتراكية «التطور اللا رأسمالي» المتمثل في قبول العيش تحت نير الاستعمار كي تتعلم منه ونتخلص من عوامل التخلف.. ولذا فإن من تعجل التغيير وعمل على حرق المراحل الاجتماعية، فإنه دفع ثمناً باهظاً من دم أجياله وما زال هذا الثمن ينزف دماً لا حبراً.
بين يدي رسالة هامة للغاية أُحيلت لي كورقة مجرد ورقة يعتقد من أحالها لي أن لا قيمة لها، لكنني توقفت عندها لأنها آتية من بلد استعماري وهو الولايات المتحدة الأمريكية!.. الرسالة آتية من مؤسسة ثقافية في الولايات المتحدة الأمريكية إلى وزارة الثقافة العراقية ترجوها التعاون لإنجاز فيلم عن «جيرترود بيل» بعنوان «رسائل من بغداد» و جيرترود بيل هي السياسية والدبلوماسية التي شغلت العالم، وكان لها دور في بناء الأمبراطوية البريطانية، وهي باحثة الآثار التي حركت الواقع الراكد في العراق في أعوام ما بين الحرب العالمية الأولى عام 1914 وأعوام العشرينيات.. أعوام قيام الدولة العراقية الحديثة.
كيف تنظر البلدان الاستعمارية للتاريخ؟
شركة أمريكية هي شركة LLC متعاونة مع عدة شركات إنتاج سينمائية تعمل على إنتاج فيلم عن شخصية «جيرترود بيل» وتريد أن تشرك العراق في عملية الإنتاج، العراق الذي لا تهمه هذه الشخصية التي شغلت العالم. لأن «جيرترود بيل التي عُرفت باسم مسز بيل» عاشت حياتها في العراق وواكبت كل المتغيرات السياسية فيه بعد الحرب العالمية الأولى وتوقيع اتفاقية سايس بيكو.
إن الشركة المنتجة للفيلم وكما سنرى في الرسالة المطولة التي بين يدي والتي سوف نرحل في كل تفاصيلها ومضامين تلك التفاصيل قد أوردت القول في تعريف الشركاء المنتجين لهذا الفيلم الكبير «نحن نتعاون بشكل وثيق مع المؤسسات البريطانية لدراسة العراق.. وقد كونا شراكات مع المركز الأمريكي للبحوث الشرقية ACOR في عمان - الأردن - أرشفة بيل جيرترود في جامعة نيوكاسل في إنكلترا ومؤسسة التراث الإنكليزي.. وقد أسسنا مؤخراً شراكة مع ISAW ومؤسسة السينما العالمية.. كما تتصورون من المخجل عدم تضمين المنظور العراقي»
إن الشركة المنتجة لا تطلب مشاركة مادية مالية بل هي ترى أن تجاوز الرؤية العراقية لشخصية «جيرترود بيل» التي عرفت بكل حياتها باسم «مسز بيل» والتي خضعت لقراراتها وآرائها الحكومة البريطانية ووزارة خارجيتها ودفاعها وكل مواقع القرار البريطانية.
«من المخجل عدم تضمين المنظور العراقي» هذه أول فقرة موضوعية «استعمارية!» في الرسالة الهامة.
لكن الرسالة التي سأورد الكثير من تفاصيلها الخطيرة على المستويين الثقافي والسياسي توضح كم نحن غير مبالين وغير حضاريين ووصفنا بالتخلف ليس فرضية إعلامية، بل هي واقع قائم علينا أن لا نخجل من الاعتراف به وكيف نعمل على تجاوزه إذ كان ينبغي علينا الرضوخ للعيش تحت نير الاستعمار كي نتعلم منه.. ما يدلل على ذلك أن الرسالة لم تتم الاستجابة لها ولا حتى الإجابة عليها والتي مضى عليها أكثر من عام لم تجلب انتباه أي مسؤول أو موظف داخل وزارة الثقافة، فيما ينتظر الاستعمار بفارغ الصبر معرفة الموقف من تحقيق فيلم سينمائي هو ليس فيلماً سينمائياً عادياً بل هو حدث ثقافي خطير، سوف تدرك مدى أهميته عندما يراه الجمهور المتلقي على الشاشة.
في هذه الرسالة ومن ضمن فقراتها المحسوبة الكلمات أن المؤسسة تريد الاطلاع على الأرشيف العراقي علّها تجد فيه ما يثري موضوع الفيلم السياسي والثقافي الهام والذي سوف يكون له شأن في التاريخ الإنساني.
فأين هو الأرشيف العراقي المصور؟.. كان الأرشيف مدفوناً تحت الأنقاض على مدى ثماني سنوات قبل أن أعود أنا للعراق فأكتشفه.. كان الأرشيف العراقي تحت الأمطار شتاء وتحت الأنقاض بدرجة خمسين درجة صيفاً.. وكانت المؤسسة الأمريكية تريد المجيء للعراق كي تطلع على الأرشيف العراقي المصور!.. فماذا ستجد لو جاءت للعراق واستقبلها وزير الثقافة وسمح لها بمشاهدة الأرشيف العراقي، الأرشيف الذي تتعذر مشاهدته وفتح علبه السينمائية؟!
تقول الرسالة الاستعمارية الأمريكية عن الفيلم الذي يحمل عنوان «رسائل من بغداد»:
«رسائل من بغداد هو فيلم وثائقي عن جيرترود بيل عالمة الآثار البريطانية والدبلوماسية التي قضت جزءًا من حياتها في أرض العراق أثناء الاحتلال البريطاني بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية في بداية القرن العشرين.. ونحن نتوقع بأن الفيلم في مراحله المتقدمة من العمل وسيكتمل في ربيع 2014».
نحن الآن في العام 2015 والرسالة لم تتم الإجابة عليها وسنقرأ تفاصيل هامة فيها والمفروض أن الفيلم قد تم إنجازه بدون المنظور العراقي لشخصية جيرترود بيل المعروفة باسم «مسز بيل» وهو شأن مخجل.
** ** **
الرسالة مترجمة من قبل قسم المراسم - زهراء عبد الستار
- هولندا
k.h.sununu@gmail.com