يقول الفلاسفة القدامى إن الناس ثلاثة أصناف؛ صنف قيادي يصنع الطريق له ولغيره، وصنف يتبع الطريق الذي صنعه له الآخرون، وصنف ثالث لا يصنع طريقاً فعلياً له في الحياة، ولا يتبع طرق الآخرين المعبدة والمعروفة في شؤون الحياة المختلفة. وفي واقع الأمر أن هذه المقولة تصدق على الأفراد وعلى المؤسسات ذات السياسات الواضحة، وكذلك على الأمم منذ وجد الإنسان على الأرض، وحتى قبل أن يفلسف تلك المبادئ؛ فهي كانت موجودة تطبيقاً في الواقع.
فمن هو القيادي على مستوى الأفراد والمؤسسات والأمم؟ لن نلجأ لتعريفات مدونات علم النفس ومبرمجي تطوير الذات في تحديد تلك الشخصيات أو مقومات الأمم القيادية؛ بل إن معياراً واحداً هو الفيصل في هذا الإطار. ويتمثل في كونه الشخص الذي لا يلتفت إلى الماضي، وعناصر تقويمه تنطلق من الوضع القائم، ويعرف تماماً ما الذي يمكنه الاعتماد عليه فيما حوله من المكونات الموضوعية والموارد البشرية. بالطبع لا بد من وجود سمات شخصية قوية أو متوازنة، وإعطائه الثقة المطلقة فيما يتبناه، إلى غير ذلك من مكملات بنية القيادة.
والصنف الثاني يعرفه بالتأكيد كثير منا، بل ويمارسه أغلب الناس، لأنه يشكّل الأغلبية الساحقة في أي مجتمع من المجتمعات. لكن الحجج أحياناً توضع، لغوياً ومنطقياً من أجل الادعاء، بأن فريقاً كبيراً من الناس لا يتبعون إلى هذه الفئة (أي ليسوا إمعات)، حتى وإن كانوا كذلك.
أما الفئة الثالثة، وهي الأخطر، ولب المشكلة في كثير من المجتمعات، التي لم تجد طريقها بعد في الحياة، ولم تصنع بصمتها الثقافية والحضارية في مسيرة البشرية. حيث تأنف من أن تسلك طريقاً مأهولاً ومجرباً، وتعجز عن أن تصنع لها طريقاً سالكاً خالياً من العقبات الكأداء، وموصلاً إلى أي هدف في الحياة. حجج هذه الفئة هو دائماً في تأجيل تبين صحة الطريق، وفي الاعتماد دائماً على نماذج في الماضي؛ عاشت في ظروف مختلفة عن المتطلبات المعاصرة، ونافست بوسائل لا تتقارب مع أي من الوسائل المستجدة، ولا فهم الأمم الحالية للتعايش وبناء مملكة الإنسان.
ومما يؤسف له، أو مما يبين فشل مسعى هذه الفئة الأخيرة، أنها تتناقض في سلوكها، بين ما تدّعي أنها تؤمن به وتدعو إليه، وبين ما تفعله إذا تعلق الأمر بشيء يخص ذواتهم أو أقاربهم وذوي العلاقة بهم. لكن ذلك التهالك في الدعوى لا يربكهم، ولا يقلّص مع بالغ الأسف عدد المسايرين لهم من الفئة الثانية (فئة الإمعات)، لأنهم قد أطفأوا عقولهم عن التدبر، وساروا خلف من يقودهم بتهويمات تعزز الانتشاء عندهم بما ليس فيهم.
وكنت قد عرضت فكرتي على أحد المعارف، فلامني على تشاؤمي، وقال: لعل هذه الفئة الثالثة التي تسميها تعي حالات الفشل المتكررة في الوصول إلى أهداف الحياة الجادة، فتتغير أوضاعنا بتسييرها للقطيع الذي يتبعها من الفئة الثانية. قلت له: لا تغيب عني الرغبة في التفاؤل، لكن مصدر تشاؤمي، أن طول الزمن الذي مارسته هذه الفئة القيادية فعلاً دون مواصفات قيادة، جعلها تمثّل حتى على نفسها، بأنها سائرة في طريق يوصل إلى شيء. ومع طول فترات التمثيل صدّقت نفسها، بأن ما لديها هي مبادئ راسخة ومجربة في ظروف مماثلة لما تعيشه مجتمعاتها؛ أما ما عداها مما لدى الآخرين، فليس سوى قشور مستوحاة من أمم أخرى، لا تلبث أن تتبخر، أو تخدم في أقصى مداها تلك الأمم. وليس أسوأ - في الواقع - من تصديق النفس دون سند، لأنه يجعل المرء يعيش في الوهم السرمدي!
- الرياض