ولدتُ وعشتُ المرحلة الأولى من عمري في بيتٍ يطلُّ على المسجد الحرام بمكة المكرمة، وأول ثقافة تعلمتها من أبي وأخي الكبير (يرحمهما الله) أثناء الخروج من باب البيت هي ثقافة المشي وسط الزحام. فالزحام كان محله دائماً أمام باب البيت وبمجرد تجاوز منطقة الباب يبدأ الدخول في زحام قد يكون قاتلاً لطفل إذا وقع بين الأقدام القاصدة لبيت الله أو الخارجة منه أو المتجولة للتسوّق في ساحته الصغيرة تلك الأيام.
قد أكون اكتسبتُ، في تلك المرحلة أيضاً، من تلك الثقافة مهارة الهروب من الزحام حتى أصبحتُ محترفاً لها ووفياً لسلوكها، وقد التزمتُ بذلك الهروب من كل زحام أجده أمامي حتى وصل بي الزمن إلى تقاطعات تشبه المفارقات. ففي حين كنتُ ولا أزال أرى أن من بين جميع أماكن التجوّل والتزوّد والسياحة لا توجد أماكن ممتلئة بالأشياء الهامة بالنسبة لي وتخلو من ازدحام الناس عليها سوى (المكتبات) عامة كانت أو تجارية؛ أجد في الظاهرة التي تتجدد متطوّرة منذ أعوام قليلة (معارض الكتب) زحاماً مذهلاً يرغمني على تجنبه واستخدام مهارتي في الهروب منه!
هذا جوابي عن سؤال يتكرر لي: لماذا لا أتواجد في معارض الكتب، سواء في الرياض أو في العواصم التي أكون متواجداً بها أثناء معرضها؟ وهنا ينتهي موضوعي الشخصي عن (فوبيا الثقافة الأولى) لأدخل في موضوع عن الفوبيا الثقافية عموماً - لا أحب كلمة رهاب! - فالمسألة فيها تشابه عكسيّ إلى حد عميق:
قرأتُ وسمعتُ وشاهدتُ سؤالاً يتكرر على رواد ومسؤولي معرض الرياض الدولي للكتاب عن سبب تزاحم الناس في الحضور إليه، وكانت الأجوبة تدور حول أسباب بعضها مضحك كالتعلل بعدم وجود أماكن للترفيه، وبعضها يتجنى على المجتمع باتهامه أنه يتقصّد الاختلاط بين الرجال والنساء، وبعضها - وهو قليل - متفائل جداً بأن الجميع صار يكتب وصار يؤلف الكتب لذلك فالجميع يحضر لمعرض الكتاب!
ما أراه، من خلال تجربتي، أن حضور الناس بتلك الأعداد المهولة، ومن مختلف طبقات المجتمع السعودي إلى معرض الكتاب، يعود إلى أن المجتمع قد اقتنع أخيراً أننا كنا متأخرين جداً عن العالم، وبالذات في المعرفة والاطلاع على النتاجات الفكرية علمية كانت أو أدبية.. بسبب الرقابة الزائدة والمنع القاسي الذي عانينا منه طيلة الأزمنة السابقة لهذا الزمن. ومن هنا تكونت عند المجتمع كله (فوبيا العودة إلى الثقافة الأولى) والثقافة الأولى المقصودة هنا هي ثقافة الانغلاق المعرفي وتشديد المنع على الكتب وسيطرة نوعية معينة من كتب الإرشاد والتوجيه على كافة رفوف المكتبات التي لم يكن أحدٌ يزورها إلا حين يريد فتوى عن شيء اشتبه عليه تحليله من تحريمه، أو عندما يريد العلاج من مرض أو قراءة قصة عاطفية بريئة أو مهذبة بمقص الرقيب!
الحال نفسها، وبنسب متفاوتة، كانت في جميع الدول العربية، فثمة منع كان يتماهى مع سياسة كل نظام يحكم في أي من البلدان العربية، عدا لبنان الذي كان ولا يزال البلد الوحيد المتحرر من كل أنواع الرقابة - بخاصة على المطبوعات - لذلك نجد أن معرض بيروت الدولي للكتاب هو الوحيد ربما الذي لا يتصف بالازدحام أبداً، مع أن بيروت هي المتصفة بعاصمة صناعة الكتب. وذلك لخلو تاريخ لبنان في ذاكرة شعبه من الانغلاق الثقافي - عدا فترات الحروب - وبالتالي فلا فوبيا لدى شعبه إلا من تجدد الحرب. أما بقية الدول العربية ففوبيا العودة إلى ثقافة الانغلاق تتفاوت لدى شعوبها وينعكس ذلك على تفاوت ازدحام شعوبها على الانفتاح المعرفي سواء عبر مواقع التواصل أو معارض الكتب.
تلك (الفوبيا) التي هي الأعلى لدينا، كما أنها جعلت معرضنا هو الأكثر مبيعاً وازدحاماً جعلت مشاركات شعبنا هي الأكثر على مواقع التواصل الاجتماعي(!) أما أنا فالفوبيا الخاصة بتجربتي الطفولية تجعلني أهرب من كل زحام حتى وإن كان في معارض كتب أو مواقع إلكترونية، لأنني كنتُ أعرف كيف أحصل على الكتب بالسفر إلى الدول الناشرة لها، كما أنني أعرف الآن كيفية الاطلاع على المواقع من دون التزاحم بالمشاركة!
أقول: هي الفوبيا وحدها التي تدفع المجتمع إلى التزاحم لحضور معرض الكتاب طلباً لازدحامه حول الكتب بعد أن قضى أزمنة طويلة بمعزل عنها. وإن كنتُ أشترك مع الجميع في الخوف من عودة الانغلاق - كثقافة أولى - برغم أنها باتت مستحيلة بعد دخول العالم كله في عصر التقنية الحديثة المنفتحة على كل شيء، إلا أن خوفي الشخصي من الازدحام - كثقافة أولى خاصة بي- كان ولا يزال هو الطاغي والمتحكم في حضوري أو غيابي. وتلك الفوبيا نفسها هي التي تدفع المجتمع - بخاصة مجتمعنا السعودي - إلى التزاحم أيضاً في تسجيل حضوره ومشاركاته عبر وسائل التواصل الاجتماعي الإلكترونية، بينما تدفعني دائماً لترك مساحة تضمن هروبي وتكفل غيابي!
تلك رؤيتي قلتها بتفصيلٍ وإيجازٍ من بعد تأمُّل، والله أعلم.
- الرياض
ffnff69@hotmail.com