الحياة لم تُمنح لفريق من الناس دون فريق، وحظوظها من اليسر والعسر ومن الشدة واللين ليست مقصورة على المكفوفين وأصحاب الآفات دون غيرهم من الناس، ولو عرف الإنسان ما يلقى غيره من المصاعب وما يشقى به غيره من مشكلات الحياة، لهانت عليه الخطوب، المهم أن يلقى الإنسان حياته باسماً لها لا عابساً، وجاداً فيها لا لاعباً، وأن يحمل نصيبه من أثقالها ويؤدي نصيبه من واجباتها. هذه كانت نظرة عميد الأدب العربي طه حسين، الذي واجه حياته الصعبه كفيفاً، لم يستسلم، بل حاول عشرات المرات لكي يصل، لم يظن ولو لدقيقة أن الاندماج مع النخب أنها قد تصنع مثقفاً لا يُهزم..
صاحبنا لا يعرف كيف حفظ القرآن ولا يذكر كيف بدأه، ولا كيف أعاده، وإن كان يذكر من حياته في الكتّاب مواقف كثيرة، يذكر أوقاتاً كان يذهب فيها إلى الكتّاب محمولاً على كتف أحد أخويه، لأن الكتّاب كان بعيداً، ولأنه كان أضعف من أن يقطع ماشياً تلك المسافة. يذكر أنه كان جالساً على الأرض بين أيدي «سيدنا».
صاحبنا يرى علماء الريف وأشياخ القرى يغدون ويروحون في جلال ومهابة، ويقولون فيستمع لهم الناس مع شيء من الإكبار، وكان صاحبنا متأثراً بنفسية الريف، فكاد يظن أن العلماء فطروا من طينة نقية ممتازة غير الطينة التي فطر منها الناس جميعاً.
صاحبنا لا يعرف شيئاً يدفع النفوس إلى الحرية والإسراف فيها كالأدب، إنه امتحان للذوق ورياضة له على تعرّف باطن الجمال في الشعر والنثر.
صاحبنا كانت الإجازة أنفع لقلبه وعقله من العام الدراسي كله، كانت الإجازة تمكّنه من أن يفرغ لنفسة فيفكر، ومن أن يخلو لأخوته فيقرأ، وما أكثر ما كان يقرأ. وكان يفتن بما كان يقرأ فيجد فيها صوراً وأحاديث تخالف ما عرفه في الريف.
صاحبنا لم يضق بالفقر ولا بقصر يده عما كان يريد، فقد ألفته نفسه واستيقن أن الثراء والسعة وخفض العيش أشياء تعوق عن طلب العلم، وأن غنى القلوب والنفوس بالعلم خير وأجدى من امتلاء الجيوب والأيدي بالمال.
صاحبنا كان من الغريب عليه عندما كان في الجامعة أن يدفع مبلغاً من المال وأن يشتري العلم بالمال، لم يتعود ذلك ولم يألفه، لقد اعتاد أن يرزق برغيف من الخبز مقابل كل يوم في الأزهر، وكان أداء ذلك الجنية عسيراً عليه، ولكنه عشق دروس الجامعة بمقدار ما وجد من العسر فيها.
صاحبنا أدرك مبكِّراً أن للمجد مكاناً غير الأزهر، هو الجامعة، لذلك عاش مبكراً حياة الأدباء، وكانت حياة الأدباء في تلك الأيام مزجاً غريباً من متعة ومن بؤس نفسي فرضه على نفسه، وإن لم تفرضه الحياة، فالأديب بالنسبة إليه بائس بطبعه، طامح إلى النعيم.
صاحبنا أخلص لحياته الجديدة عند أول مقال تمّ نشره له، فقد أرضاه ذلك عن نفسه وأطمعه في المزيد، وأصبح له أستاذان اختصّا بحبه وإعجابه، أحدهما يذكِّره بأئمة البصرة والكوفة، هو الشيخ سيد المرصفي، والآخر يذكِّره بفلاسفة اليونان، وهو لطفي السيد.
صاحبنا لم تغفل ذاكرته من المواقف الحزينة، فحين أراد أن ينتسب إلى الأزهر في أول الشباب قال له أحد ممتحنينه: اقرأ يا أعمى سورة الكهف! أيضاً عندما دخل غرفة الدرس لأول مرة في فرنسا سمع الأستاذ يقول لصاحبه: أيكون زميلك هذا مكفوفاً! قال زميله: نعم.
صاحبنا ركب السفينة لأول مرّة عند التحاقه بجامعة باريس، خرج ليس من الأزهر وحوش عطا، ولكن خرج من زيّه الأزهري ودخل في زيّه الأوروبي الجديد.
صاحبنا كان يرى نفسه غريباً أينما كان وحيثما حلّ، لا يكاد يفرق في ذلك بين وطنه الذي نشأ فيه وبين غيره من الأوطان الأجنبية، لأن ذلك الحجاب الصفيق الذي ضرب بينه وبين الدنيا منذ أول الصبا كان محيطاً به، يأخذه من جميع أقطاره في كل مكان.
قال طه حسين إن أهم التحولات في حياته «ثلاث نقاط: الأولى: هي السفر إلى أوربا؛ «لأنه حوّلني من التقليد إلى التجديد». والثانية: هي الزواج؛ «لأنه أخرجني من وحدتي وأسعدني بنعمة الحب»، والثالثة: هي إنجاب الأبناء؛ «لأنه جعلني أشعر بالحنان وقسوة الحياة وتبعتها».
كتاب «الأيام» وهو بجانب قيمته الأدبية الرفيعة باعتباره طرازاً فريداً من السير الذاتية امتاز بصدق وعذوبة أسلوبه، فإن هذا العمل لإحاطة القارئ بدنيا طه حسين والروافد الفكرية والثقافية التي شكلت مذهبه ومنهجه.
الكتاب لم يكن سرداً ليوميات طه حسين فقط، كان شاهداً على روح وبذرة الأدب وحب العلم التي تأصلت به منذ طفولته، الإنسان الذي أراد أن يعرف ماذا خلف قريته البسيطة، ماذا يخبئ له هذا العالم المجهول وهو شخص كفيف..
استطاع في أن يخلق لنفسه حياة في ظل انعدام كل إمكانيات الترفيه لبساطة الحال «وللناس مذاهبهم المختلفة في التخفف من الهموم والتخلص من الأحزان, فمنهم من يتسلى عنها بالقراءة, ومنهم من يتسلى عنها بالرياضة, ومنهم من يتسلى عنها بالاستماع للموسيقى والغناء, ومنهم من يذهب غير هذه المذاهب كلها لينسى نفسه ويفر من حياته الحاضرة وما تثقله به من الأعباء».
كان ذا إحساس عالٍ جداً وخجول، ذلك الكفيف الذي أصبح وزيراً وعميد الأدب العربي فيما بعد:
عَرِفَت لنفسه إرادةٌ قوية، ومنذ ذلك الوقت حرم على نفسه ألواناً من الطعام لم تبح له إلا أن جاوز الخامسة والعشرين، حرم على نفسه الحساء والأرز وكل الألوان التي تؤكل بالملاعق لأنه كان يعرف أنه لا يحسن اصطناع الملعقة، وكان يكره أن يضحك عليه إخوته، أو تبكي أمه، أو يعلمه أبوه في هدوء حزين.
هذه السيرة الذاتية ضمن المنهج الدراسي للمرحلة الثانوية في بعض البلدان، تميزت بحلاوة الأسلوب والمفردة الأنيقة وروح الإصرار وتحدي الصعاب، والسيرة تتكون من ثلاثة أجزاء، الجزء الأول تحدث فيها عن طفولته وعائلته وحرص عائلته على حفظه للقرآن، الجزء الثاني خروجه من القرية إلى الأزهر واختلاطه بالعلماء والأدباء وانخراطه في سلك التعليم، الجزء الثالث تحدث عن رحلته الجامعية وسفره إلى فرنسا وزواجه والعودة لمصر ومواجهة التحديات الجديدة.
أحلام الفهمي - الدمام