حينما يتصفح الناظر للصحف ولمواقع التواصل يجدها تدفع بآلاف المقالات يومياً، ومع تسليمنا بأن تلك المقالات لا بد أن تحتوي على الجيد وعلى المتوسط وعلى الغثاء الذي لا قيمة لها، ولكنني أجد أغلبها تتسم بالسطحية وبالانطباعية، والمشكلة الرئيسة أن بعض تلك المقالات الغاثة للعقل وللنفس وللروح تُصنف كمقالات رأي، وهي في الواقع حديث عادي كحديث الاستراحات والشبات والطلعات، بل قد يتفوق عليها حديث الاستراحات بفضاء حرية يتيح أحياناً طرحاً أكثر جرأة، وإذا ما وقفنا عند الكلمة الأخيرة وهي الجرأة، فإننا ظللنا فترة من الزمن نقيس قيمة المقال لجرأته في مخالفة السائد وانتقاد السلطة، ولكن تبين أن معالجة تلك الجرأة للموضوعات والنقاشات المطروحة كان هزيلاً جداً، وليست هذه المصيبة، بل المصيبة في أن تلك المعالجة الهزيلة تعجب قطاعاً عريضاً من المتلقين، مما قد يدل على مستوى من الضحالة العام..
إن ما يجعل كاتباً ما أكثر احتراماً في نظري، هي طريقة معالجته موضوعه ليس فقط لأنه يقوم باستنتاجات كسولة، بل لأن لديه مصادر معلومة خاصة ومميزة، ولديه منهجاً في معالجة المعلومة ينطلق من المنطق العلمي في حده الأدنى، ولديه أسلوب كتابي مشوّق، والأهم الأهم لديه قيم يحرص على الدفاع عنها من غير تلون، ومهما حاول الكاتبون الكرام وغير الكرام إخفاء الحقائق فإنها ستظهر يوماً، ولذا لا يجب أن يقوموا بمحاولة خداع القارئ لأن صنفاً من القراء من المحال خداعهم أو إدخالهم في دائرة صنع الضحالة والسطحية التوافقي أو الاستغبائي الذي نرى كيف يتم، إما بتعمد أو تحت قيم المجاملة والمبالغة والمديح الأنثروبولوجيين المتبادلة بين كاتبي الصف الأول إلى الصف العاشر...
إن القارئ الذكي يستطيع في النهاية تصنيف الكاتب بناء على كتابته وبناء على قيمه الثقافية، وهنا يكثر السقوط. وهنا تصعب الكتابة.. وكثيراً ما يجعلني في حيرة كاتب يكتب رأياً في بضعة أسطر يعرف ذلك الرأي وطريقة الطرح الرجل العادي، فتجد المهللين والمكبرين يثنون على الفتح العجيب الذي تم على يد الكاتب الفلتة، وهنا لا أدري لماذا أحس أن ثمة صنعاً متعمداً للتخلف بوساطة الكتابة التي هي ضد التخلف!
ما نريده حقاً أن تكون كتاباتنا كتابات حية كتابات تعمد إلى تحليل الموضوعات التي تطرحها تحليلاً علمياً مبسطاً راقياً حراً.. كتابات تنطلق كرصاصة وتتفتح كوردة كتابات يتحقق فيها وصف بابلو نيرودا عن الكتاب بأن عملهم يشبه عمل أولئك الصيادين في القطب الشمالي على الكاتب أن يبحث عن النهر، فإن وجده متجمداً فإنه يضطر لأن يثقب الجليد.. عليه أن يجلد ويصبر ويتحمل الطقس المعادي والنقد المضاد، أن يتحدى التفاهة، أن يبحث عن التيار العميق، أن يرمي بالصنارة الصالحة الصائبة ليخرج بعد جهد جهيد وصبر شديد بسمكة صغيرة، بيد أنه لا بد له أن يرجع الكرة ويعود للصيد من جديد، ضد البرد، ضد الصقيع، ضد الماء، ضد النقد، وهكذا دواليك حتى يخرج في كل مرة صيداً أكبر وأعظم (حسن نجمي 89) الكتابة هي حياة تعيد الحياة، وليست صنعاً للموت أو طبخاً للإيديولوجيا أو تسويقاً للسائد الساكن المتجمد.
والحقيقة أننا عند النظر إلى ما يُقدَّم من كتب ومقالات وأبحاث ومقابلات فضائية وتواصلية وتحليلات سياسية وغير سياسية، بل حتى ما يُقدَّم في بعض دراسات خطابات النقد والأدب، فإن ما قد تدركه القراءة الواعية لأول وهلة أن أغلب تلك الكتابات إنما هي تحليل خطاب بطريقة أو بأخرى وهي تنقسم على النحو الآتي:
أولاً: غثاء لا قيمة له طغى على المشهد طغياناً كبيراً يتولى عملية التسطيح والتجهيل ويقوم على تسويقه فئتان: فئة من الصحفيين المؤلفين أو المؤلفين الصحفيين الذين يسوّدون صحفهم وصحائفهم بالكتابات الثرثارة وبالسطحية ويقدمونها كطبخات عاجلة لحل مشكلات الناس الحاضرة والمستقبلة...، وفئة المؤدلجين، وهذه الفئة تستعمل التبسيط كجزء من آليات الإيديولوجيا، وهذه الآلية فيها إراحة للذهن من كدِّ التعب العقلي والنظر المنهجي، وحشر للعلم وللخطاب تحت إبط الأدلجة.. لتصبح النتيجة هي قتل العقل والعلم والخطاب وإحياء التطفيل الإيديولوجي استغلالاً للإنسان من خلال ذلك الخطاب...
وأما ثانياً: فهي الكتابات الأخرى، وهي تتشعب كالآتي:
- كتابات تحليل الخطاب الفلسفية - النقدية، وهي تلك الكتابات التي تنطلق من نقد المفاهيم، ومن حركة الفكر البشري، وتتنوع تلك الكتابات بتنوع المناهج الفلسفية، وإن أصبحت تعوّل كثيراً على الأدوات اللسانية بعد المنعطف الكبير للفلسفة نحو اللسانيات ونحو دراسة الخطاب ونقده..
- كتابات تحليل الخطاب النقدي وهي كتابات منهجية صارمة تعتمد على الأدوات اللسانية في مقاربة الخطاب مضافاً إليها مناهج أخرى مساعدة ليمثّل ذلك تلاقحاً ضروريا بين ماكرو الخطاب وميكرو الخطاب، واستناداً على القاعدة المهمة التي تنص على أن لا حقيقة اجتماعية خارج الخطاب.
- كتابات تخصصية بحتة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو نفسية أو تربوية أو غير ذلك، وهذا تظل قيمتها التحليلية في إطاراتها التخصصية، ولكنها لا بد أن ترفد بتحليل خطاب سيسو لساني أو لساني إن تجاوزت حدودها الضيقة أو الأكاديمية، وحاولت الخروج للمجتمع للتعامل مع مشكلاته وخطاباته.
- كتابات النقد الثقافي وكتابات النقد الأدبي التي تصل في النهاية إلى تحليل الخطاب المبني على جماليات النصوص، وإن كنت أزعم أن النقد الثقافي هو جزء من تحليل الخطاب النقدي قبل تبلور مناهجه، ومع ذلك فإن ما يجمع النقد الثقافي، والنقد الأدبي الخطابي أنهما يحفلان غالباً بميوعة وتلفيقية الدراسات، وحينما تستعين بعض الدراسات النقدية والثقافية ببعض النظريات والفروع العلمية الأخرى يكون التعامل معها في الغالب تعاملاً سطحياً أو تعاملاً انتقائياً مخلاً، ويمكن الاطلاع على بعض تلك الدراسات التي اعتمدت على السيميائية أو على لسانيات النص لندرك تضاؤل نتائجها وسقوطها في الميكانيكية المنهجية والمصادرة على المطلوب.
ولا شك أن النوعين الأولين من الكتابات أعني الكتابات الفلسفية وكتابات تحليل الخطاب النقدي هما أكثر الكتابات قيمة ونضجاً، وهما ما نحتاج إليه لتجاوز الأزمات الهائلة التي نعيش فيها بيد أن ذلك لا بد أن يسبق بدراسات نقدية مكثفة للتلقي الإبستيمولوجي، ولارتحال النظريات بين العلوم وبين الحضارات وبين الأمكنة، ثم الشروع في البناء النظري والبناء العلمي بالانطلاق من المشكلات المعرفية وغيرها من المشكلات الراهنة انطلاقاً قطائعياً تجاوزياً يأخذ على عاتقه إعطاب حركة التلقي السلبية، وإصلاح سيسولوجيا العلم لتأسيس إبستمية العلم وإلا فإن السفينة لا قيمة لها حينما يتصحر البحر...
د. جمعان عبدالكريم - الباحة