رواية تقرأ وجه الوطن وتتمعن في تفاصيله
تستيقظ الحكاية القديمة للوطن الفلسطيني المغدور كنار من تحت رماد، فثأرها لا يزال معلقا بأعناق الوعود.. فهاهي الكاتبة مرمر القاسم تخط مزيدا من تدوينات الوعد، لعل القضية تبقى حية في القلب، ويقظة في الوجدان، وأن من يطالب فيها لا تزال لديه القدرة على مزيد من التواصل مع ما حوله، لتذكر هذه المواقف والتراسلات الوجدانية بأن الحق لا يسقط أبدا بالتقادم، أو يوسم بالخذلان، أو يضيع كالهباء في تضاعيف النسيان.
رواية مرمر القاسم «مجانين في زمن عاقل» تقرا وجه الوطن، وتمعن في تفاصيله، وتجول في تلك الأماكن الحميمة التي عاش الكثير من أبناء فلسطين تفاصيلها في مدن باتت أثرا بعد عين، بل مجرد ذكريات مريرة للهرب والنزوح والمنافي القريبة والبعيدة، أو الإقامة على هامش الحياة في زمن الاحتلال والهيمنة..
تعتمد هذه الرواية على سبر أغوار الذات المفعمة بهزائمها وأحزانها، إذ لا يجد الراوي بداً من تغليب فكرة النص المفتوح على معاني الشعرية والتخيل الفاتن للمواقف، إلا أنه يعطي للذاكرة فرصة أن تسكب ما لديها من تفاصيل دقيقة على نحو مشهد اللقاء بين سحر وليالي حينما لا يجد المجال متسعا لحكاية، ليتم تدوين الموقف بنص موازي، تعمد حتى أسلوب تغيير الخط في الكتابة تمييزا لهذه الانثيالات الإنسانية التي أرادت الكاتبة أن تضعها كنص موازٍ للنص السردي في هذه الرواية، فسعت إلى أن تكون شاهداً عصرياً على مأساة إنسان فلسطين، حتى أنها لتتمنى لو أنها عاشت في أي عصر سوى هذا العصر الذي بات يقال عنه فجوراً: الزمن الجديد، أو العهد المتطور، أو زمن الحضارة!! على أدق تعبير يرد في تفاصيل هذا العمل السردي المفعم بوهج حزن ومأساة وطن.
«مرمر قاسم» تقيم في هذا الرواية منصة للحوار مع الذات المتعبة، ولا تجد بداً من حضور تفاصيل الحكاية كاملة غير منقوصة، بل إنها سعت إلى تحويلها إلى نص سردي يؤصل للخطاب الروائي المتناغم مع شيئين أساسيين هما لغة البوح وشعرية الموقف، لتندمج هذه الانثيالات بنص واحد يغترف من نبع المكان حديثا، ويرتشف من ذاكرة الزمن ولع التفاصيل.
ويحضر الحدث المعد بعناية وذكاء ليكون رافداً لبناء مشهدية القصة الأصيلة.. تلك التي لا تغيب تفاصيلها، ولا يمل الإنسان من استعادة أطرافها، بل إن الرواح -كما تقول- الكاتبة تزداد اشتعالا كلما مررت بتلك المدن التي تحولت هويتها العربية إلى مشهد زائف وملفق، إلا أنها تظل تتكئ على الذاكرة وأصل حكاية العربي الذي شيد هذه المدن والقرى واستزرع الكثير من الشجيرات في حقولها، لكنها باتت في عهد جديد مليء بالمغالطة واللجاجة والزيف.
عناصر السرد في هذه الرواية تحضر -كما أسلفنا- قوية في بناء المكان ومعالمه وتفاصيل حكايته، إلا أن هذا المكان يأخذ خصوصية أخرى، أو لنقُل عنه دائرة أضيق تتمثل في الحديث الحميمي في المقاهي، والشوارع، والأزقة والحواري القديمة، أو منعطفات ذكريات غامضة نحو البحر وتفاصيل مدن تعج بحكاية النازحين عنها قصرا وقهرا كحيفا ويافا والناصرة وجنين ومدن أخرى لا تقل عمقا وبهاء في هوية هذا الوطن الذي سلب أعز ما يملك وهو البقاء على أديم أرضه وفي تفاصيل حياته.
في هذه الرواية لمرمر قاسم تنهض اللغة في النص على محاورعدة، أو ركائز تتمثل في ثلاثة مستويات هي لغة الكتابة التي أتقنتها وجعلتها في متناول الراوي ليختار منها كلمات تناسب الحدث وتتفاعل معه. أما المستوى الثاني فإنه لغة السرد الروائي الذي اعتمد على طاقة الراوي في وصف الحكايات كاملة غير منقوصة، ليعزز هوية النص وتوجهه إلى الذائقة بأسلوب ثابت ومتوازن لا يؤثر في منجزات سردية أخرى..
أما المستوى الثالث للغة في هذا العمل فإنه يتمثل في النص الأدبي الموازي للعمل السردي الذي يتكئ على استحضار مفردة الشعر ومخيال البناء الشعري تفعيلا لدور هذه اللقاءات وجعلها مميزة عما سواها من لقاءات بين الشخوص في هذه الرواية وعلى رأسهم ليالي ومحمد وفجر وسعيد وشخصيات أخرى تتحرك مع الأحداث كحضور خديجة وعلي، وسامي التي تتم في صلب حكاية العمق الفلسطيني المليئة بالألم والمعاناة ومجابهة الاحتلال الغاشم لوطن من المفترض والواقع أن يعيش كباقي الأوطان.
فلكل شخصية من شخصيات هذا العمل رؤية وتوجه ومنطلق ما، بعضها يتفق مع الإطار العام لمشروعية الوطن وبنائه، ولآخرين يحسبون على الوطن ويحملون بندقية الجيش الغاصب، أو المحتل للأرض الفلسطينية، لكن الشخوص في هذه الرؤية يتفاعلون رغم تباين آرائهم لتكوين مشهد سردي ينضج الحكاية ويصنع فوراق الجدل والتأزم لكي تخرج الحكاية إلى القارئ كاملة غير منقوصة.
فالرواية إجمالا أوجزت لنا معاناة جيل جديد من الشعب الفلسطيني الذي يعيش تحت الاحتلال، فلم يتخلَّ هؤلاء عن هويتهم، بل إنهم لا يزالون في صراع مرير مع الذات التي تنشد الخلاص، وقلب لا يود مغادرة المكان حتى يتم دفنه بهذه الأرض المحتلة، لعل الزمن وسواعد الجيل الجديد يحمل في رأسه قصة جديدة ومبتكرة للخلاص من هذا الكابوس الذي يسمى الاحتلال الإسرائيلي العنصري البغيض.
** ** **
إشارة:
- مجانين في زمن عاقل (رواية)
- مرمر قاسم
- دار فضاءات عمان- الأردن 2013م
- تقع الرواية في نحو (154صفحة) من القطع المتوسط