لقد غدت الترجمة ثورة عظيمة الأثر على مختلف المستويات والأصعدة: الثقافية، والأدبية، والعلمية، وغيرها، وشكّلت جسراً للتواصل مع الثقافات المختلفة والحضارات المتعددة؛ إذْ إنَّ الترجمة- التي تشكّل فيها الكلمة الركن الأساس- تلعب دوراً مهما في تلاقح الأفكار وتثاقفها، والتفاعل والحوار مع الثقافات واللغات الحية، والشعوب والأمم الناطقة بهذه اللغات في شتى مناطق المعمورة، في ظل العولمة وما نعيشه من تسارعات كبيرة جداً في هذا العصر؛ فالترجمة إبداع حيوي، وتزاوج فكري، وتبادل ثقافي، وعطاء أدبي، ومشاركة علمية، وظاهرة تدعونا إلى التفاعل الإيجابي مع ثقافات الشعوب الأخرى، ومحاولة فهم ما لدى الآخرين من أفكار ومعارف؛ وهي التي حفظت التراث العالمي من الضياع والاندثار والآفات الأخرى، ولا شك أن إقامة العلاقات والتفاهم مع الثقافات والحضارات الأخرى من بين الأهداف التي تسعى الترجمة لتحقيقها، ومن ثمّ فإنَّ الترجمة وسيلة لتبادل الثقافات ونشرها، وتعانق الحضارات والتقائها -لا تنافرها وصراعها - والإطلاع على ما لدى الآخرين من فكر وثقافة، ونحن مطالبون اليوم بالانفتاح على الحضارات والثقافات واللغات الأخرى؛ لأنها تشكّل نوافذ للاستفادة من الفكر العالمي، وفي النهاية فإنَّ الهدف الذي تسعى إليه الترجمة هو المساهمة في الفكر العالمي، وإثرائه بالأفكار البناءة والمفيدة، وهنا يتجلى دور الترجمة وأثرها في التفاعل الثقافي، وما ينتجه العقل البشري.
حظيت الترجمة في العالم العربي عبر العصور والأزمان- بوصفها وسيلة من وسائل الاتصال، وقناة من قنوات نقل المعرفة، وتبادل الأفكار والمفاهيم بين الأمم والشعوب، والتقريب بين الحضارات المختلفة والثقافات المتعددة - بمكانة مرموقة من حيث الرعاية والاهتمام؛ ففي العصر العباسي، وفي عهد الخليفة المأمون تم تأسيس «بيت الحكمة»، وفي العهد الفاطمي ظهرت «دار الحكمة»، وفي العصر الحديث وجدت «مدرسة الألسن» التي أنشأها رفاعة الطهطاوي، وفي بدايات الألفية الحالية تمّ إنشاء كثير من المؤسسات والهيئات ومراكز الدراسات التي عُنيت بالترجمة، وأقدمت على ترجمة بعض الآثار المهمة إلى اللغة العربية، وعلى الرغم من كل هذا، فقد تعرضت حركة الترجمة في العالم العربي إلى أزمات متعددة ومخاضات كثيرة، وما زالت تعاني كثيراً من المعضلات والمشكلات، ويكفي أن نستذكر أنَّ كل ما يترجم في العالم العربي قليل جداً ولا يكاد يذكر، وأنَّ كل ما ترجم منذ العصر العباسي وحتى اليوم في العالم العربي لا يساوي ما يترجم في دولة واحدة مثل اسبانيا في سنة واحدة، وهذا شيء يندى له الجبين، ويجعل المترجمين والمستنيرين والمثقفين العرب يتصببون عرقاً، ومن ثمّ فإن الترجمة في العالم العربي تنمُّ عن وجود فجوة كبيرة، وحوار غير متكافىء بين العرب والأمم والشعوب الأخرى، ولهذا فإنَّ الواجب يفرض علينا المسارعة إلى رتق ما فتق، وملء هذه الفجوة قبل أن تزداد اتساعاً، وحتى يكون للترجمة أثرها الفاعل والمطلوب في نقل المعارف والعلوم والثقافات المتعددة، وتقوم بدورها المتوقع في التبادل الثقافي والمعرفي والتفاعل مع الآخرين، لا بدَّ أن نعيرها الاهتمام الكافي والرعاية المعنوية والمادية، وأن تكون متكافئة بين العرب وغيرهم، وليست من طرف واحد.
إننا نعيش في زمن عجيب، وفقر ثقافي مدقع، وخوار فكري، واستلاب حضاري، ويكفي أن نلقي نظرة على تقرير المعرفة في العالم العربي للسنوات الأخيرة حتى نذهل بلغة الأرقام، وندرك أننا على حافة الهاوية المعرفية والعلمية، وأن الثقافة العربية في خطر داهم؛ إذْ إنَّها تكابد أزمة عصيبة، وتواجه تحديات جمّة، وتستدعي وجود استراتيجية شفافة وواضحة، تعمل على تعزيز الإيجابيات وتلافي السلبيات، وهذا ما يفرض علينا أن نعير الأمور الثقافية والمعرفية جانباً من الاهتمام؛ إنْ لم يكن الاهتمام الكافي، ولهذا أحسب أن الترجمة التي تعدّ معيناً لا ينضب، ومنبعاً خصباً وثرياً تأخذ على عاتقها دوراً كبيراً في محاربة هذا الفقر الثقافي والانطواء على النفس، والانكفاء على الذات، ومن ثمَّ الخروج من شرنقة الأنا وحب الذات، والانطلاق في فضاءات رحبة وجديدة من أجل معرفة الآخر ومحاورته، وما الترجمة إلا شكل من أشكال العولمة، وحوار الحضارات والثقافات المتباينة، ونحن أحوج ما نكون إليها في الوقت الحالي من أجل إنعاش وجود الآخر في حياتنا، خاصة مع كل هذه الدعوات التي تنادي بالعولمة وحوار الحضارات وتواصل الثقافات، ولذلك أسجل هنا هذه الدعوة إلى تبني لغة الحوار، ونبذ الصراعات والخصومات والمهاترات، إنْ على مستوى الأفراد أو الجماعات أو الأمم والشعوب، حتى نتفادى كثيراً من الاختلافات والمآسي والصراعات والحروب التي نحن في غنى عنها، ولهذا فإنَّ التبادل الثقافي والإطلاع على ما يمتلكه الآخرون لا يكون إلا بالمعرفة والترجمة، التي أضحت تشكّل إحدى المرجعيات الثقافية، والينابيع المعرفية لكل الأمم والشعوب.
على الرغم من كوننا نعيش في القرن الحادي والعشرين عصر الحداثة والانترنت والعولمة، ومع إدراكنا لجدلية المعرفة والجهل، وتناقضات الحياة ومفارقاتها وتعقيداتها، وتشظي الشخصية العربية وتوجهاتها بين هذا وذلك، واختلاف مرجعياتها الفكرية ومنابعها الثقافية وإيديولوجياتها الأخرى، واستحضارنا لتقارير المعرفة في العالم العربي في السنوات المنصرمة، فإن الثقافة وتجلياتها هي الشيء الوحيد الذي يجمعنا؛ فإذا كانت السياسة قد فرّقتنا فلتوحدنا الثقافة، ومن ثمَّ ندرك أنَّ الترجمة ما زال لها دور رئيس في نقل المعرفة والثقافة والأفكار وتداولها بين الأمم والشعوب، وبدون شك فقد أضحت الترجمة وسيلة من وسائل العولمة ونقل المعرفة، وحوار الحضارت وتواصل الثقافات المختلفة؛ غير أنَّ الواجب والمنطق يفرض علينا أن نكون على وعي تام حيال هذه القضية حتى لا يتمّ استغفالنا، وتنطوي علينا الحيل، ونجري مع التيار الجارف، ومن ثمّ نكون جزءاً منه من حيث لا ندري، ولذلك فإننا بحاجة إلى إعمال العقل والمنطق وتصفية هذه العولمة، وتوجيهها بما يتناسب مع هويتنا وعقيدتنا التي أصبحت في معرض التهديد، فكل الأمم والشعوب تتمتع بهوية خاصة بها، ونحن نتمتع بهوية عربية إسلامية يجب المحافظة عليها وصيانتها، والحؤول دون الدعوات المشبوهة التي تسهتدف ثقافتنا وعقيدتنا وقيمنا وأنماط حياتنا، فنحن أمة تعتز بماضيها العريق وبطولاتها وأمجادها، كما ندرك أيضاً تزاحم الفضاء المادي والمعرفي بأشكال وأنواع متعددة من الثقافات، وهنالك من يبحث عن إساءة استعمال العولمة والمثاقفة لأغراض خاصة ومُسيّسة تخدم سياساته وتطلعاته؛ إذْ أصبحت العولمة مظهراً من مظاهر «القوى الناعمة»، و»الفوضى الخلاقة»، والصراعات الخفية، والمؤامرات الثقافية، وعمليات غسل الأدمغة وتوجيهها، وقد تعالت بعض الأصوات في الغرب نفسه محذرة من العولمة ومخاطرها، وكل هذه الدواعي تفرض علينا أن نكون واعين ومشاركين في هذا الفضاء الواسع وهذه العولمة وليس متلقين فقط؛ إذْ إنَّ المثاقفة- والترجمة مظهر من مظاهرها ووسيلة من وسائلها- لم تكن في يوم من الأيام وعلى مرّ التاريخ من طرف واحد أبداً.
د. بسام علي الربابعة - الرياض - أستاذ مشارك في اللغة الفارسية وآدابها - كلية اللغات والترجمة/جامعة الملك سعود