(تعلمت أن الناس يغفرون لك ما تقول، يغفرون لك ما تفعل، لكنهم لن يغفروا أبداً ما تسبب لهم من حزن وألم)
مايا انجيلو
هناك حيث للوحدة ألف وجه.. وللكآبة اسم آخر.. ولا رائحة للأمل...
عاش رجل يشبه الحزن في كل شيء...
بعيداً عن أعينهم وعن تفاصيل حياتهم اليومية.. أغلق الباب على نفسه، وأسدل ستائر الصمت من حوله.. وتركهم يخوضون في غمار الحديث عنه.. ويبحرون في ظلمات الظن..
اعتاد الناس من حوله صمته وتواريه.. فيما اعتاد هو تجاهلهم وعدم الاكتراث لأمرهم.
بعد أن انشغلوا بحكاياتهم عنه لسنين، صمتوا أخيراً حد الامتلاء، فالقول انتهى بأنه رجل مجنون.
يعتبر البعض أن الجنون هو مجرد انتهاك المعايير الاجتماعية بتصرفات غريبة يصبح معها الشخص خارج حدود العقل ويستحق سحب امتيازاته، فيما يكتفي البعض بوصفه أنه عدم القدرة على السيطرة على العقل.. أما أنا فقد أردت أن اكتشف الأمر بنفسي.
في المرة الأولى التي اقتربت فيها من منزله أحسست بشعور غريب يشبه إلى حد ما رؤية وجه مألوف بين الزحام لكن تفاصيله مطمورة تحت ركام الذكريات، فتفاصيل المكان متكررة، بل حتى الرائحة تشبه رائحة منزلنا القديم.
هربت بسرعة، لم أتوقع أن يكون ما سمعته صحيحاً فمن لم يقل بجنون هذا الشخص كان يحذِّر الآخرين من الاقتراب منه أو حتى من منزله فقد تصيبه لعنة.
عدت إلى المنزل، ولم أخبر أحداً بما حدث.
أقسمت ألا أعود إلى ذلك المنزل وساكنه الغريب مرة أخرى، ولكن في اليوم التالي وجدت نفسي فجأة ألصق وجهي بزجاج النافذة الخارجية لمنزل ذلك العجوز، لم تكن الستائر مسدلة هذه المرة.
شاهدته يجلس بهدوء على كرسي هزاز وفي يده كتاب كان غلافه الخارجي من جلد سميك لم أستطع التمييز بينه وبين اليد التي تمسك به.
أحسست بأنه تعمد ترك الستائر مرفوعة هذه المرة فالنور يملأ المكان بصورة مبهجة والتفاصيل أشد وضوحاً ورغم ذلك لم أجرؤ على طرق الباب.
- يمكنك أن تدخل فلا شيء يستحق المشاهدة، هكذا قال..
عندما سمعت صوته أستيقظ في داخلي كل ما هو كامن وقديم، ذكريات الطفولة، أغان قديمة، تفاصيل أماكن كان تقبع في داخلي بسكون.. كلها عادت إليها الحياة من جديد وتمثّلت أطيافاً حيَّة تراقبني بصمت في كل ليلة.
تبعته بهدوء إلى الداخل، المكان خال إلا من كرسي هزاز وبيانو في زاوية غرفة الجلوس تعلوه طبقة من الغبار وكأنه لم يمسسه أحد.
رمى إليّ بوسادة وطلب مني أن أجلس.
- يبدو أنك الشخص الوحيد الذي يهوى المغامرة فلقد مضى زمن طويل قبل أن يمر أحد بالقرب من هذا المنزل.
أجبته بهدوء: ولماذا تسميها مغامرة!!
- أن تتجاهل كل ما تسمعه عني في هذه القرية لتقف على الأمر بنفسك أليس هذا مغامرة.
أحسست بأن أوراقي أمامه قد كشفت، فهدفي واضح وهو أن أعرف حقيقة هذا الرجل وسر صمته وحزنه وكل ما قيل عنه.
سكت لبرهة قبل أن أقول له: وهل تعرف ماذا يقول الناس عنك؟
أجاب: لا يهمني ما يقولونه، فالكلام لا يقتل أحداً.
ولكن..؟؟ وقبل أن أتمكن من إكمال جملتي، فتح الباب بقوة وهو يشير إليّ أن أذهب.
خرجت من هناك، وقد تمكن مني الفضول إلى أبعد حد، فالرجل ليس كما يقولون، ربما يكون حزيناً بالفعل ولكنه ليس مجنوناً.
لم أعد في اليوم التالي ولا في الأسبوع الذي يليه.
فقد قررت أن استجمع قواي وأصفي ذهني لمعرفة حقيقته وسر عزلته الغامض.
عندما وصلت إلى المنزل لم يكن الباب مغلقاً، كان الرجل العجوز يقف في منتصف الغرفة وحيداً ولكنه كان يتحدث بصوتٍ مرتفع:
- لن أسمح لك بأخذه.
- إنه ابني.
- سوف ألحقك بك إلى كل مكان، سأطردك بكل ما أوتيت من قوة حتى أستعيده ليعلم عندما يكبر أنني لم أتخلى عنه.
كشجرة قديمة.. أنهكها الوقوف رغم جفافها.. فاضطرت في النهاية أن تعانق الجاذبية.. سقط الرجل العجوز.. وسقطت من يديه صورة كان يمسك بها يظهر فيها طفل لم استغرق وقتاً طويلاً للتعرّف عليه فهو يشبهني كثيراً إلى حد التطابق.
أخذت الصورة ودسستها في جيبي.
غادرت المنزل كطفل صغير لا يكف عن البكاء.
لم أعد إلى منزلي أو بالأصح لم أعد إلى حياتي، فتلك الصورة لم تكن الشيء الوحيد الذي غادرت به منزل ذلك الرجل العجوز، بل شيء آخر لم أتمكن من رؤيته حتى اكتشفت فيما بعد أنه الحزن.
- عبيد بن سرحان