- 1 -
فجأة اختفى المدير العام..
تساءل الناس لماذا؟! لا أحد يجد إجابة شافية قال أحدهم: إنه كان متوقعًا اختفاؤه في أية لحظة لماذا؟ طرح السؤال من شخص آخر.
قال ثالث: إنه كان في سنواته الأخيرة يردد كلمات مثل العمل صار طفش التقاعد مناسب، الأعمال الحرة حان وقتها، الفلوس الكثيرة حان قطافها.
قال مدير مكتبه ذو الشنب المرسوم كهلال: لكل شيء إذا ما تم نقصان..
قال مدير صغير مقرب إلى المدير العام: المفروض الواحد لا يمكث في الوظيفة أكثر من عشر سنوات، وإلا يتسرب إليه الملل والرتابة.
اجاب زميله: وكيف تعرف هذه الحقيقة وأنت مدير جديد، ثم أضاف وهو يجول بنظراته بباب مكتب المدير العام وهو يتخيله يخرج إليهم بهيبته الطبيعية، قال: كلما أمضى الإنسان وقتًا أطول بوظيفة خصوصًا إذا كانت مهمة شعر بالتشبث بها، الوظيفة مرض..
- 2 -
أينما ذهبت هذه الأيام أجد الكل يتحدثون عن سر اختفاء المدير، كنت في المكتبة أتجول في عالم الإنترنت وأتابع الجديد في موقع (أمازون) المتخصص بالكتب الجديدة، عندما مر بالقرب مني خالد، فرح بي من خلال نظراته البريئة، ضحك وهو يشاركني تصفح أسماء الكتب الجديدة عرفت من خلال حديثه أن لديه أسئلة كثيرة عن سر اختفاء المدير كأنه اطمأن إلى سحب كرسيًا وجلس بالقرب مني وهو يخفي شبه ابتسامة قال:
-صراحة عسفنا قبل أن يروح، وهذه هي الدنيا، تشاغلت عنه بالإنترنت وقلت له: من هو الذي عسفكم؟! ضحك ببراءة وقال: أشعر بشبحه في كل مكان في زوايا هذا المبنى لا أصدق أنه راح، أكثر من عشرين عامًا، ويختفي فجأة!! قلت له: إلى هذه الدرجة يخيفكم!! اعتدل بجلسته وعيونه مصوبة بأسماء الكتب الجديدة التي أخذت تقذف بها الطابعة، ثم قال:
- تصدق أنه يخرج علينا هنا ولا ندري كيف أتى، إنه ساحر، وغالبًا ما يصطاد الموظفين في مكاتبهم عندما يكونون متأخرين أو خارجين يرون أعمالهم، ضحكت عليه بصوت عالٍ وقلت له: ربما يكون لديه عيون وآذان، نحن في عصر التقنية، ضحك خالد وهو يتلفت يمنة ويسرة وكأنه يخشى خروج المدير المختفي عليه من أي باب من هذه الأبواب المتعددة، ثم قال هو (جني) يخرج متى ما يريد وكيفما يريد، لا تستطيع التقنية أن تقلده! ضحكت مرة ثانية منه وقلت له مازحًا: انتبه للطابعة لا يخرج عليك منها، أو من الحاسب نحن في عصر الفيروسات المتعددة، ابتسم وفي وجهه علامات استفهام، ثم غادرني إلى مكتبه بعد أن ترك لي وعده لزيارته بين وقت وآخر.
- 3 -
في المطعم الصغير والأنيق جلسنا نحن الزملاء نتناول طعام الفطور قبل موعد العمل، طغى الحديث عن سر اختفاء المدير العام، قال وليد وهو يشم رائحة الفول صراحة من زمان عن الفول والحمص في هذا المطعم، ما بعد تلك الأيام الجميلة التي كنا نتناول الفطور مع بعض، نرتشف الشاي مع طعم الحمص، ثم ضحك بثقة، وأضاف: تصدقون أني عفت هذا المطعم بعد قرار منع أكلنا هنا، شعرت أننا مثل (حمار البرسيم الذي يحمله ولا يأكله) ضحك الجميع وهم يستعدون لتناول الفطور مع البعض ولأول مرة..
قال أحمد: يا الله عليكم بالفول والحمص، لقد عادت إليكم السعادة من جديد، والباقي على الدوام عشرون دقيقة..
رد عليه منصور أشعر أني أمارس حريتي لأول مرة بعد مصادرتها من زمان، قهقه الجميع، ثم ساد صمت لم يقطعه إلا صوت عبد الله وهو (يتطعم) بالشاي والحمص وبصوت عالٍ، تحدث سعيد وقال صراحة لا تبخسون الرجل حقه وعلينا أن نقيم مزاياه وعيوبه، ونتذكر أحسن الأشياء الجميلة التي قدمها.
انبرى حسام وقال: صراحة هو يذكرني بالأب الذي ساهم في تربية أبنائه وحثهم على الجد والاجتهاد بالصغر وساعدهم في الدراسة في الخارج لمصلحتهم غير أنه لم يصدق أنهم كبروا حتى الآن ومازال يعاملهم بنفس الأسلوب حتى هرب من هرب وبقي منهم من بقي، ونافق من نافق، وغضب من غضب، ثم قال أحمد: بالحقيقة أن مزاياه أكثر من عيوبه ومهما يكن من أمر بعض تصرفاته، إلا أنه بشر وعلينا أن نتذكر أحسن ما قدمه لهذه المؤسسة، حتى ولو أنه يعتبرها أحيانًا ملكًا له وحده، قاطعه عبد الله وهو يرتشف كوب الشاي بلذة وقال الكمال لله وحده، والإنسان بشر والبشر خطاؤون، لكن المشكلة التي أشعر أنه وقع بها هي حبه للتسلط المستمر ومع كل الناس، وشعوره بالغيرة من الآخرين حتى وإن كانوا طيبين معه دائمًا ولكن يظل الإنسان بطبعه غير كامل، اعتدل منصور وتحدث بهدوء كعادته وقال: يبدو أن المشكلة في عالمنا العربي هي مشكلة تنشئة وحتى التعليم والشهادات العليا أحيانًا لا تستطيع تغيير الطبع وبعض العادات لدى المديرين، ثم أضاف والمشكلة مع صاحبنا أنه يعرف كل شيء ولكن يتصرف مع الناس وكأنه لا يدري أنه يسبب لهم إشكالات واستياء، ثم أضاف قائلاً: ويبدو أننا كمجموعة لم نصارحه في يوم ما أو نلمح له عن بعض تصرفاته، ثم استدرك وهو يناظر الساعة ولكن كيف نصارحه؟ تدخل حمد الذي كان هادئًا طول الوقت وقال: إن المشكلة تكمن جذورها في طول المدة التي يمضيها المدير في وظيفته، فكلما طالت مدته زاد تشبثه بحب الوظيفة، وصار يخشى من الآخرين على مركزه لهذا فهو يتصرف من دافع الخوف على فقدانه، خصوصًا عندما يكون المحيطون به مثله أو أحسن، تلفت خالد يمنة ويسرة كعادته عندما يرغب في الحديث وقال الأمور طبيعية في تغيير المدير في العديد من المؤسسات، لكن حتى الآن لست مصدقًا أن مديرنا قد غادر إلى غير رجعة، وعمومًا بالرغم مما كان يمارسه من أساليب إدارية تصل إلى التسلط أحيانًا إلا أنني أشعر في السنوات الأخيرة أنه قدم خدمات وسمعة لمؤسستنا، وأنا شخصيًا استفدت من علاقتي معه كثيرًا، مع أنني أشعر في أعماقي بالرهبة منه الممزوجة بالاحترام..
ثم قال محمد إن مديرنا راح بخيره وشره وعلينا أن نذكره بالخير ونتمنى أن يعوضنا عنه بمدير يسهم في مواصلة المسيرة ويستفيد من أخطاء المدير السابق، ويحافظ على إنجازات بيتنا الثاني..
في هذا الأثناء وصل إلينا عبد العزيز الذي قال: لاحظت في المواقف وأنا داخل شبح المدير العام السابق قال خالد: معقول!؟
نظرنا بوجوه بعض وتذكرنا أن موعد الدوام قد حان، ودعنا بعضنا البعض وخرجنا إلى مكاتبنا من أبواب المطعم المتعددة.
- ناصر محمد العديلي