إبراهيم أمين فودة
323 صفحة من القطع الكبير
شاعرنا أفرد من ديوانه أكثر من مائة وخمسين صفحة لتسبيحه وابتهالاته. وقرابة مائة صفحة لعبراته والباقي لزفراته وبين الابتهالات.. والعبرات.. والزفرات يحدد لنا خريطة سفر لابد من عبورها وفق ما يقتضيه الموقف.
(نظر الحبيب) ناجى فيه خالقه جل وعلا قائلاً:
ربي اليك لجأت في ضرائي
وأنا الذي أرجوك في سرائي
عودتني منك الجميل تكرما
ووهبت لي الشكران في النعماء
واظلني الستر الذي أضفيته
دوما علي فكان خير رداء
فامنن عليّ بنظرة في محنتي
نظر الحبيب لباب كل دواء
وأخرى روحانية:
يا رب رحماك ما قاربت منقصة
وبي رشادي لم يمسس بآفات
وآفة العقل أن القلب يغلبه
على هداه لدى ضعف وحاجات
وحاجة القلب ريُّ النفس من ظمأ
ومشرب النفس ثر بالخطيئات
و(حنانيك) ثالثة:
حنانيك ربي ما عصيتك عامدا
ولا اخترت يوماً أن أُرى لك عاصيا
فإن جئت خيراً جئت منك منة
وان جئت شراً ما تعمدت جانيا
قضاؤك امضى من قضائي وعزمتي
وأمرك في الحالين قد كان ماضيا
فرحماك أولى بي ولطفك شاملي
وأرجوك رباً لا أرجيك قاضيا
ابتهالات اتسع لها قلبه وعقله ويقينه وايمانه ناشد بها خالقه ملتمساً منه الرحمة والغفران.. كان قانتاً لا قانطاً (راعي الخير) لها نكهة التقوى والصلاح:*
يا صاحب الجاه.. لا تفنى وجاهته
وراعي الخير لا تشقى رعاياه
يبلى الملوك ويبلى من وجاهتهم
وليس يبلى له عز ولا جاه
له على الملك سلطان يذل له
عز الملوك ويحيا بعد محياه
الحب مصدره والحب مورده
والدين آيته والله سواه
معاذك الله.. اني لا أقارنه
بالناس جل عن الإنسان معناه
من محراب التسابيح والابتهالات يأخذنا الشاعر معه إلى زفراته.. وذكرياته.. متسائلاً وهو يحصي حصاد عمره:
ماذا جنى العمر بعد الكد والنصب
يا طيبة الأمل المرجو والحسب
أسلفت عمري في الاسرار حافلة
حتى تحيرت بين الصدق والكذب
ضممت بين ضلوعي السر منكتماً
والسر أعظم ما واراه صدر نبي
فظن من ظن أني قد ركنت إلى
رغد من العيش أم وفر من النشب
كثيرة تقولات الناس في حقه.. عدم اكتراثه بغيره إنه ضعيف لا يقاوم. قاوم الأقاويل وودع كل عناء كان يحمله.. وقال: كفى:
كفى عبثاً فالعمر قد كان ينفد
وان الذي نرجو لينأى ويبعد
وما صدقت رؤياك قط وانني
أخاف كدأب الأمس أن يكذب الغد
أحس وقد طال المدى والنوى بنا
وجبنا الذي جبناه والليل مشهد
بأني وقد جزت الطريق أضلني
عن المنهج الأسنى الغرام المعربد
سئمت الندامى والكؤوس وشاقني
إلى الصحو، والإصباح عزم ومقصد
نهاية منتظرة وسعيدة حتى ولو كانت مجرد خيال شاعر يقول مالا يفعل..
للحس فوارق كما يقول فارسنا:
علمتني الحياة ما ألم العجز
وقد كنت قبل ذاك أحسه
بيد أن الإحساس بالذهن شيء
غير ما يستثير حسك لمسه
ما تراني أكون بعد الذي كنت
وقد مسني النقيض وبخسه
أفأستبدل الذي هو أدنى
بالذي ساخ في عروقي غرسه؟
لست أدري لكنني رغم ما ذ
قت طروب، والخير يعشق جرسه
مقاطع من قصيدة طويلة تحمل شيئاً من رؤية شاعرنا عن الحياة.. وعن درسها المستفاد هذه المرة يحمل في يده المنجل كي يقتلع الجذور.!! جذور من لا ندري!
أبيت على حلم وأصحوعلى حلم
فأين إذا معنى الحصافة والعلم؟!
إذا عشت أرضى عن غدي بخياله
جميلا كما أهوى نسيجاً من الوهم
فلا خير في يومي ولا خير في غدي
وما زلت من همٍّ أعيش إلى همٍّ
فدونك يا أوهام عني فإنني
قلعت جذور الوهم من تربه الجلم
الوهم ظل مدمرا.. عنكبوته تنسج عش القلق.. والحيرة القاتلة..
ومن وهمه الذي تحرر منه إلى غربته التي استلمت قيادتها وأودعته أثقالها بعيداً عن أحلامه.. لتدنيه مرة أخرى إلى أوهامه..
وقضى الله أن أعيش غريبا
غربة في الزمان أو في المقام
أين آمالنا اللواتي تمطت
ثم ذابت بين الضنى والزحام؟!
وتعالت إلى السماء أماني
هوت من غرورها في الرغام
أين أحلامنا اللواتي نعمنا
برؤاها على بساط الخيام؟!
وانتبهنا - فلم نجد من صواها
غير وهم يدب وسط الظلام
وضوح الرؤية يذيب الأوهام.. والأماني لا مكانة للفرد فيهما.. وإلا تحولتا إلى مصدر انكسار وانهيار..
شاعرنا فودة جميل فعل بالنسبة لعنايته قبل أن ينصرم حبل العمر:
ولما رأيت العمر يجري وخفت أن
أموت ولا تحظى بما تشتهي عيني
تعجلت تزويج البنات ولم يكن
كفاني ما حصلن من درج الفن
ولكنني أرجو وقد صرن عندها
على عتبات قاربت محور الظن
درج الفن.. يعني درجة المادة الفنية وقد يقصد بدرج الفن درجات السلم الدراسي..
(جمرة) عنوان نخشى من كيه:
تغيرت الدنيا كأن صباحها
مساء وإن الدهر ليل مؤبد
لئن صانني ديني وعقلي وشيمتي
ففي ثقة عمياء ما كان يسعد
تكذِّب في العينين والأذن لو بدا
لإحداهما مما تخافان مشهد
ولكنها الأكباد كالدهر قلَّب
وفي كل قلب جمرة تتوقد
تشع من الإيمان نوراً وهالة
ومن دونه فهي الحريق المعربد
جمرة الصلاح والاستقامة لا تكوي.. إنها تدفئ من دون دخان..
(خداع) وما أدراك ما الخداع وما يخلفه من بلاو وصداع رأس لا يهدأ..
خداع وتضليل لمن كان همه
تتبع ظل المال في الناس ديدنا
ولا غيب في أني أخادع من أرى
خلائقه لا تستقيم به لنا
الخداع لا يقيم اعوجاجاً لأنه منطق من لا يرعوي ولا يخشى الحقيقة.. استبدل الخداع بالنصيحة.. والدعوة الحسنة..
ما زالت الحيرة المستبدة تطارده.. وتأخذه فما أن يخلص منها حتى يقع في شراكها:
أنا في حيرة من الأمر حتى
كدت أنسى عقلي وأنسى جناني
لست أدري أنى المسير ولاكـ
يف ولا استبين أين مكان!
كل صبح فتوى.. وكل مساء
حار لبِّي فيها وضاع بياني
أرَشَادي قد خانني أم جفاني؟
وجناني قد تاه أم قد قلاني.
فأنا هيكل بغير فؤاد
وأنا الروح دونما جثمان
الحيرة يا شاعرنا تأخذ صاحبها إلى أفق سرابي ضبابي لا عودة معه.. الإيمان.. الثبات حيث لا حيرة..
الحياة الضبابية تعسف بشاعرنا.. ورثته الحيرة، والضياع.. والسأم.. لم تدع له فرصة راحة أو استراحة
سئمت وجودي بعد طول ركودي
وأصبحت كالمفقود رغم وجودي
ولست بمن يرجو الحياة وماله
مكان مع الأحياء، جدُّ سديد
وعيش الفتى ما لم يكن بوسيلة
لمجد يسويه فغير مفيد
شاعرنا التائه عاف المنى رغم إدراكه بأنها لباب حياته.. والرصيد الذي يسنده وقت الحاجة أخيراً يصحو إلى نفسه:
إذا أنا لم أروِ البذور فما أرى
لنفسي من جني الثمار شهودي
في قلبه جذوة حب متوقدة أعادته على بدء:
ولكن في مرارة وحسرة كما هي العادة:
عدنا على الذل ام عدنا على الألم؟
كلاهما واحد في منطق الأمم
ابدل مفردة الأمم بالكلم.. إنها الأنسب
ضاقت سنون وضاع العمر وهو سدى
خلالها ورجعنا بعد بالندم
مضى بعيد بنا ركب وخلفنا..
ركب ونحن حبالى عشن في وحم
يالائمي في هوى ما ذقته أبداً
لو ذقت منه الذي قد ذقت لم تلم
حسبي من الأمر إني قد بذلت له
جهدي وعمري. ولم أبخل ببذل دمي
التوفيق بيد الله..
ولأن حبه تحول في نهاية المطاف إلى قطاف دموع أخذ يكفكفها بعد يأس.. وبؤس سكن أعماقه طيلة السفر.. ولأن الدموع لها لغة صامتة ولكنها بليغة الصوت فقد أفرغ لنا شاعرنا إبراهيم أمين فودة آخر نبرة شكوى في ديوانه:
كفكف الدموع ما أراه بمغن
عنك شيئا ولا يرد قضاء
واحمد الله في البلية فالحمد
عزاء ينهنه البرحاء...
والرضى منطق القلوب الحفيلاـ
ت سناء لا لفظة.. جوفاء
رب شاك داء تخيل المو
ت إذا داؤه استحال دواء
رب شاك بلوى تؤرقه الليل
تراءت لغيره نعماء
رب شاك حيف القضاء رأى للـ
طف خفيا يرقرق النكباء
رب شاك حيف القضاء يرى فيه
على شخصه الكريم اعتداء
سرحت منه نظرة سرها العدل
إلى غيره فخر بكاء
رب شاك حيف القضاء يرى فيه
اعتباطا وقسوة بلهاء
خطرت بين ناظريه افانين
مآس فألهمته الرضاء
القضاء يا شاعرنا قدر.. قسمة ونصيب لا حيف فيه ولا عذل معه.. بل عدل، ورضى بالمقسوم.. لا مكان فيه لجزع.. ولا لشكوى تتجاوز حدود المصيبة مهما كانت على قدر الصبر يأتي الأجر والمثوبة من الله، الشكوى لغير الله مذلة.. انتهى.
- الرياض ص. ب 231185 - الرمز 11321 ـ فاكس 2053338