«ولماذا لا أنشر مذكراتي؟ لطالما رأيت مذكرات لأناس لم أسمع بهم وفشلت في لقائهم -لأني لم يحدث أن كنت شخصًا يومًا ما-لم قد لا تكون مذكراتي مثيرة للاهتمام؟!» بهذا يبرر تشارلز بوتر -بطل رواية «مذكرات لا أحد أو مذكرات نكرة»- نشره لمذكراته التي قد تكون يوميات عادية يعيشها كل الناس تقريبًا، وهذا وإن كان كلامًا على لسان شخصية روائية متخيلة، لكنه يبين الدافع الذي يجعل «الأشخاص» -كما سماهم- يقدمون على كتابة سيرهم الذاتية وتجربتهم الحياتية، ولعلهم يرغبون في كشف أحد وجوههم لقرائهم، باعتبار أننا جميعًا مثل مكعب «روبيك» لنا وجوه عديدة نظهر منها ما يناسب المقام دون أن نكون متلونين بالضرورة! ولعل هذا ما يجعل كتب السيرة الذاتية من الكتب التي تلقى رواجًا لأنها تشبع رغبة الإنسان في استراق النظر «بطريقة شرعية» إلى حيوات الآخرين عبر نوافذ فتحوها هم أنفسهم. وعلى كثرة السير الذاتية في الأدب العربي بدءًا بالأيام لطه حسين- بالرغم مما أوردته بعض البحوث من وجود هذا الجنس الأدبي في الأدب العربي قبل ذلك التاريخ كترجمة حنين بن إسحاق لنفسه والغزالي في المنقذ من الضلال وغيرها- إلا أنها من المؤكد قد تفاوتت بين المثالية المفرطة والفضائحية، وإن كانت الثانية أقل وجودًا من الأولى لاعتبارات كثيرة -هي نفسها ربما التي ترجح كفة المثالية من حيث الكم على الأقل- يعزوها سيد بحراوي إلى « الرقابة الداخلية التي تمنع الكاتب العربي من أن يصل إلى أعماق الأشياء عند كتابتها».
لإحسان عبدالقدوس رواية شهيرة بعنوان « أنا لا أكذب لكني أتجمل»، والتجمل ليس كذبًا دومًا، فالكل يود الظهور بمظهر حسن أمام الآخرين، وهو فعل نطبقه جميعًا في منازلنا وعملنا ومناسباتنا الاجتماعية، ولهذا تبدو بعض السير فائقة في مثاليتها إلى الحد الذي قد يخامر قارئها الشك في صدقيتها، وبخاصة تلك التي تغيب منها ردود الفعل البشرية الطبيعية على المواقف الحياتية، كأيام طه حسين، أو حصاد السنين لزكي نجيب محمود التي رصد فيها تاريخه الفكري، أو عين النقد لصلاح فضل، أو حتى غربة الراعي لإحسان عباس، ومثلها كثير جدًا! بينما نجد المذكرات التي يكتبها المعتقلون- وإن كانت تعد من أدب السجون لكن ذلك لا يمنع انتماءها للسيرة- تبدو متخففة من الضوابط أو القيود التي يكبل بها «المثاليون» أنفسهم، وربما كانت القوقعة لمصطفى خليفة مثالًا جيدًا على ما ذهبنا إليه، فهو لا يتردد في ذكر ردة فعله في المواقف التي مر بها كما أنه لم يظهر نفسه بمظهر البطل الذي لا يقهر، ومثلها كانت مذكرات مليكة أوفقير في جزأيها السجينة والغريبة. كما أن السير التي تكتب أولًا بلغة أخرى غير العربية تظل أكثر تحررًا في الحديث عن تجارب صاحبها، وقد تكون سيرة محمد شكري « الخبز الحافي» السيرة الأكثر صراحة وجرأة إلى حد وصفها بالإباحية ومنعها في بعض الدول العربية -وربما كانت اللغة التي كتبت بها ما ساعد على مثل هذا قبل ترجمتها إلى العربية- برغم أنه لم يفعل شيئًا سوى كتابة حياته كما عاشها، وهو أمر قد يفعله بعض الروائيين مغلفين ذلك بمسمى رواية للتحرر من أي مساءلة من جانب القراء، وإن كان الأمر لا يخلو من ذلك أبدًا! غير أن صراحة شكري هذه لم تمنع اتهامه بالكذب في مسألة أميته، وقد صرح أحد أصدقائه بعد موته أنه لم يكن أميًا حتى العشرين بل حتى سن العاشرة أو الحادية عشرة، وأن أميته كانت وسيلة للترويج للكتاب! وتأتي في المرتبة الثانية سيرة سهيل إدريس في جزئها الأول «ذكريات في الحب والأدب صدرت عام 2002»، التي وصفت بالجريئة حد الصدمة! يقول عنها الروائي السعودي عبده خال:» وحين أنهيت قراءة الكتاب كان سؤالا ملحًا يقف في رأسي: هل كانت استعارتي للكتاب بسبب تلك الجملة الفضائحية التي يذكرها سهيل عن والده، أم رغبة في قراءة سيرة يسعى فيها الكاتب إلى تأسيس مصداقية لكتب السير الذاتية العربية؟»
ويظل السؤال المهم حول الدافع الحقيقي الذي يدفع المرء لكتابة تجربته الذاتية «بقضها وقضيضها»، هل هي وسيلة للشهرة والدعاية غير المباشرة لنتاجه الآخر؟ أم الرغبة بالظهور بمظهر الشخصية المثيرة للجدل، وهذه أيضًا ستحقق له رواجًا ! ومع ذلك تبقى كتابة السيرة- شأنها شأن أي فن أدبي- لا تخضع لشروط ومقاييس المسطرة، ويبقى الحكم للقارئ الذي يفترض أنه يعرف عم يبحث!
بثينة الإبراهيم - القاهرة