(أ)
لمصلحة مَنْ ينتشر التصوّر الشعبي عن وجود مؤامرة غربيّة ضدّ الإسلام، وهو التصوّر الذي يتطوّر على مستوى شرائح عدّة، بحيث إنّك تقول عنه تصوّراً شعبيّاً على دلالة ابتعاده عن العلميّة والواقعيّة العينيّة العلنيّة ولجوئه للغيبية والمجهول، لكنّك في واقع الأمر تجد التصوّر قد تغلغلَ في العديد من شرائح الناس، ولست تعدم أن تجدَ منهم أكاديميين على درجة من ادعاءِ الواقعيّة، وحال أن تصل إلى مسألة العلاقات الغربيّة - العربيّة تجدهم لا يفارقون هذا التصوّر كلّه أو شيئاً منه؛ ولكَ أن تسأل في البدء: ضمن اقتضاءات هذا التصوّر المبني على الافتراض والمجهول: ما هو أو أين هو هذا الإسلام المادي الموجود في الواقع، الذي تُحاك ضدّه كلّ هذه المؤامرات المكلّفة جدّا ًعلى حساب المتآمرين أنفسهم قبل حساب المتآمر عليهم؟.. هل هو الإسلام الموجود في المليشيات المسلّحة والخلايا الإرهابيّة النائمة واليقظة في كلّ أنحاء العالم؟ في طالبان، القاعدة، تنظيم الدولة الإسلاميّة - داعش، تنظيم النصرة، بوكو حرام؟.. هل هو في المليشيات المسلّحة السنيّة أو الشيعيّة التي بدأت تحتلّ مساحات واسعة داخل الدول العربيّة وصار دويلات داخل دويلات؟.. هل هو الإسلام النظامي الموجود في دول مثل: السعودية أو مصر أو إيران وغيرها؟ أو دول أخرى مضطربة: باكستان والسودان وقطاع غزة وغيرها؟.. هل هو الإسلام النظري الموجود في المتن المقدّس، أو المادي التاريخيّ الذي وُجِدَ عبر ممارسات الرعيل الأوّل؟.. وهل يعقل أن يكون: كلّ هذا جميعه؟ ألا يعني تصوّر المؤامرة من جُملة ما يعنيه - اقتضاءً ودلالةً: (أنّ الإسلامَ واحدٌ، وأنّه موجودٌ، ووجوده يشكّل خطراً على الحضارة الغربيّة) وأنّ الذي يتبنّى في وعيه إيماناً بهذه النظرية عليه في الحدّ الأدنى أن ينطلق من وجود إسلام واحد متّفق عليه، وعليه - تحديداً - تجري المؤامرة!!! وهو ما يتعذّر وجوده وحملانه على الواقع؛ فكيف تجد نظرية المؤامرة ضدّ الإسلام بيئة خصبة في وعي المسلمين والعرب، والمسلمون شيعٌ متفرّقةٌ متناحرةٌ لا يستقرّون على مذهب أو واقع، ولا يقرّون تعدّداً يسنّ التعايش السلمي داخل أوطانهم أو بينهم وبين جيرانهم المختلفين عنهم!.. ضدّ مَنْ إذاً المؤامرة!!
(ب)
كلّما وقعت عملية إرهابيّة في الغرب، وتبنّى تنظيم إسلامويٌّ الوقوف وراءها، عادت أسئلة التقية والتيه مرّة أخرى؛ ما أسباب الإرهاب الذي يضرب مدن العالم ويكون الإسلام السياسي المسلّح وراءه ومتورّطاً به؟.. من المسبّب: البيئة الحاضنة بما فيها من مرجعيّات دينيّة وثقافيّة واسعة تجري فيه الانتقائيّة وتشكّل ما تريده؟.. أم السياسات الدولية الراهنة ومدى تأثيرها على الإنسان العربي المسلم وعلى الواقع المأزوم؟ أم كلاهما؟ بحيث إنّك لا تقدر أن تفصل سبباً عن آخر.
أسئلة عديدة في الإرهابَيْنِ: الإرهابُ الرأسمالي والإرهابُ الأصولي الديني - إرهابُ الدُّوَل وإرهابُ الحركات الراديكاليّة والدينيّة - السياسيّة، تزدادُ وتُعادُ مكرورةً حينما يضرب الإرهاب الحركاتي إحدى مدن الدول الغربيّة، حينذاك تتحرّك دولة الضحايا، كما تتحرّك جماهير وكتّاب الشعوب المدانة بالعمليّة باتجاهات عديدة متناقضة، والإشكاليّة في التحرّك العربي على تعدّده أنّه يتشابه في خانة لوم الآخر وتبرئة النفس وإن اختلفت الصياغات (والآخر قد يكون الغربي ضمن من يتبنّى الظنّ بأن الغرب هو المحرّض، والآخر قد يكون من قام بالعملية نفسها بحيث يتمّ بتره عن سياقه النشوئي والتطوّري الدموي)؛ وتبقى المطالبات بإشراك الإصلاح الدستوري والتشريعي لا ترقى ولا تصل إلى مواجهة تحدّياتها وارتباطاتها في الحدّ من نمو الإرهاب داخلياً أو الاستناد إلى الداخل العربي وعمقه في تبرير الإرهاب وتمويله - والتبرير على أرض الواقع لا يختلف كثيراً عن الموافقة على وشرعنته، كأنّه في أقصى حالاته القانونيّة يندرج تحت المواد القانونية التي تخصّ الدفاع عن النفس، وشيءٌ من هذا تعتمده أجندة الخطاب الديني - السياسي في إباحة العنف وإشاعته بوصفه دفاعاً عن الدين ويجري عليه ما يجرى على تصوّرات ومقتضيات الدفاع عن النفس؛ فمن المستفيد من تصوّر المؤامرة ضدّ الإسلام إذاً؟ وضدَّ أيّ إسلام!
(ج)
بعد وقوع العملية الإرهابيّة التي ضربت الجريدة الفرنسيّة، رأينا تسارع الخطاب الديني - السياسي المعتدل (مع التحفّظ الدائم على هذا التوصيف) باتّهام المخابرات الغربيّة بتسهيل هذه العملية أو بالوقوف وراءها، عبر صياغات لا تستند إلى معلومٍ، بل تستند إلى مجهولٍ يُساق في بناءٍ قصصيٍّ واختلاقات خياليّة، تُخرجها غريزة وجوديّة في الدفاع عن نفسه عبر اتّهام الآخرين؛ فالتصوّرُ الذي يَرجعُ إلى مؤامرات تاريخيّة ويربطها بالحاضر كأنهما حالة وجوديّة حاضرة الآن يضرب في سياقاته أيّ احتكامٍ لعقلٍ، إذّاك يكون الجدل عدميّاً تحت هكذا شروط غير علميّة وغير ماديّة، ولا تحتكم إلى معايير وموازين، ليس لأنّه يعاكس الواقع فحسب، بل لأنّه يلجأ إلى المجهول ويعتمده في بناء معلومه، ولأنّه يبتعد عن جوهر واقعه، ويستمرّ في إنكار مسؤوليته في هذا الانحطاط الإنساني المتسارع جدّا، فالاستمرار على النكران لن يُبعد الشبهات، بقدر ما سوف يجعلها تستمرّ وتجد لها مدخلاً في نفوس المواطنين العرب الذين يظنّون أنفسهم على الحياد، بل منهم من يستنكر مقولات الخطاب الديني - السياسي ثم يجد نفسه متورّطاً بها دون إدراك بهذا التورّط والتشابه بينه وبين الخطاب المتطرّف، لأنّه يظنّ في نفسه أنّه يدافع عن نفسه حينما يتبنّى مقولة: (المؤامرة ضدّ الإسلام)، و(الخطر المحدق به من قبل أعدائه الغربيين)، وهو جزء من تصوّرات يحملها الخطاب الديني - السياسي ويبشّر بها في رؤيته للعلاقات الخارجيّة الدولية، وفي تصوّراته لقيمة الرجعيّة والردّة العلميّة، وفي هروبه المستمرّ المتمثّل بالابتعاد عن نقد الذات، والانطلاق من لوم الآخرين أمام كلّ فشل أو خطأ يرتكبه.
(د)
ماذا تعني نظرية المؤامرة ضدّ الإسلام؟.. وما علاقة هذا التصوّر بتبرير الإرهاب؟.. وأين يقع التناقض بين هذا التصوّر واللعبة السببية التي يلجأ إليها في إخضاع كلّ عملية إرهابيّة يروح ضحيّتها أبرياء إلى علّةٍ وسببٍ لا شأن له بالضحيّة والواقعة، بقدر ما هو سبب متعلّق بقضايا سياسيّة لا يمكن ربطها مباشرة بهذا الحدث، وبهذا العنف لتسويغه وتمريره على أنّه عملٌ مشروعٌ أو أنّه عملٌ منكرٌ لكنّ المتسبّب: هو ذاك الذي بدأ الحكاية في الأوّل!!
يأتي تصوّر المؤامرة كجزءٍ من الأجندة الوجوديّة للخطاب الديني - السياسي ذلك أنّ وجود هذا التصوّر (البعبع) حاله كحال المُشرّع لوجود الحركات المتطرّفة الإسلامويّة، بحيث تكتسب هذه الحركات شرعيّة شعبيّة عبر وجود خطر عام على العقيدة والديانة تحاكُ من كلّ حدبٍ وصوبٍ، بينما الأنظمة العربيّة في غفلة عنها، هكذا يتعرّض الوعي الشعبي لحالة من التزوير في الأولويات وإشاعة (أنّ الدين في خطر)، وهي الإشاعة التي تغذي وجود هذه الحركات بالاستفادة من نظرية المؤامرة على الإسلام، فالمؤامرات قد تحاك أو هي جزءٌ من أساليب المخابرات عبر التجسّس والتوريط والتضليل، لكنها تكون على ما هو موجود ولا تكون على ما هو غائب، ولعلّ في هذا أوّل حجّتنا في نقد وجود مؤامرة ضدّ الإسلام، لأن المؤامرة بهذا التصوّر تستلزم وجود إسلام واحد وهو ما يتعذّر وجوده، كما أسلفنا.. والحجّة الأخرى في رفض هذا التصوّر وتهميشه مبنيّ على السببية: لماذا تحاك المؤامرة ضدّ الإسلام الواحد الافتراضي أو الإسلام المتعدّد والمتناحر الواقعي؟.. هل يمكن أن يخرج العنف من دائرة الإجابة على هذا السؤال؟ فمواجهة عنف حركات الإسلام السياسي المتطرّفة ليس مؤامرة ضدّ الإسلام، والإصرار على هكذا مقولة هو من صلب أجندة الإسلام - السياسي الذي يريد أن يدافع عن نفسه من حملات الداخل والخارج باعتبارها حملات ليس على برنامجه المتطرّف بل على الدين نفسه، وهو قول يجعل الإسلام - السياسي هو الممثل لهذا الإسلام الذي تحاك ضدّه المؤامرات، وتجهّز له الاستعدادات والمواجهات.
فالقول بالمؤامرة هو استبدال لواقع الحرب ضد الإرهاب، والمستفيد من هذا التحويل في التصوّر هو الإسلام السياسي المتطرّف نفسه، بحيث كلما انتشرت نظرية المؤامرة ضد الإسلام وجد له في الواقع خطاباً شعبياً ما زال يتمسّك بمقولات الخطاب الديني - السياسي على حجّة أن الحرب على الإرهاب هي غلاف للحرب على الإسلام، وهذا عين ما يريده التطرّف، وتغفل أحياناً عن معالجته الأنظمة العربيّة التي تقلّل من خطر تصوّر المؤامرة وقد تتبنّاها أحياناً في جدلها الداخلي، فتغفل عن معالجة هكذا بيئات ترفض الإرهاب وتدافع عنه في الوقت عينه، دون أن تدرك أبعاد تبنّي مقولة وتصوّر المؤامرة ضدّ الإسلام، ودون أن تدرك أنّ الخطاب الديني - السياسي هو المستفيد الأكبر من هذا التصوّر بوصفه يبرّر وجوده وأعماله.
- جدة