لم يصل التشتت الفكري بالمسلمين كما هو الحال عليه اليوم، في ظل أوضاع كونية، أقل ما يقال عنها بأنها غير مواتية لاستمرار فكر تياراتهم العامة مثلما كانت طوال الحقب السابقة. فالعلم من جهة سدّ فراغ كان الوصوليون والأصوليون يتسللون منه إلى عقول الجهلة، ليسيطروا عليها، ويسوقونهم من ثَم إلى حيث يريدون؛ ووسائل التواصل الحديثة والسريعة أيضاً بين فئات البشر حالياً سدّت خانة أخرى كان مريدو الابتزاز يدلفون منها إلى ضحاياهم، ليحولوا الشأن الخاص والأمور الروحانية إلى ساحات صراع يتكسّبون منها في بورصة الاتّجار الفكري.
لكن منظمات الإرهاب العالمي، وأغلبها إسلامية أو بواجهات إسلامية، قد أدركت خطورة الأمر بفضح العلم والتواصل بين البشر مناشطهم ومصالحهم، وعلى رموزهم الذين ينشدون المكانة التي لا تضاهى لدى العامة؛ فوضعوا نصب أعينهم الاهتمام بتلك الموارد الحديثة (وهي وسائل التواصل بصورة أساسية، لأن العلم لا قبل لهم به)، وتفننوا في إجادة استخدام تلك الوسائل، بما يبقي ضحاياهم تحت السيطرة. وقد كان هذا الاهتمام أحد الأسباب، التي جعلت المجتمعات الإسلامية (والعربية منها أو الجاليات العربية في الغرب على وجه الخصوص) في واقع متناقض جداً، يعيش فيه الفرد ازدواجية شديدة بين واقعه العلمي والمعيشي وفكره الخرافي، الذي يشرّق ويغرّب به تجار الأيديولوجيا.
بعد الأحداث الإرهابية الكبرى، التي جرت في مطلع القرن الحادي والعشرين، تم نشوء التنظيمات الإسلامية المتطرفة في مناطق مختلفة من البلدان الإسلامية بعدها بعقد من الزمان؛ بدأ فكر الشارع العربي – الإسلامي في التشوش. وقد ظهرت آثار ذلك الارتباك في مواقفهم من تلك التنظيمات ومبادئها، التي تدعو إليها، وأهدافها على المستوى الفردي والاجتماعي والمؤسساتي والعالمي. ثم أظهر الحادث الإرهابي الموجه إلى مجلة «شارلي إيبدو» الفرنسية، الذي قُتل فيه اثنا عشر صحفياً وعدد من رجال الأمن؛ فأصابت ذلك الفكر بمقتل في المنطق. فقد بقيت أعداد كبيرة من العامة الجهلة، التي أريد لها أن تبقى كذلك، في وسائل التواصل يتناقشون: هل الشرطي الفرنسي الذي قتله الإرهابيان الفرنسيان من أصول جزائرية شهيد، أم غير شهيد؟ ولم يلتفت كثير من أولئك المتحذلقين إلى المجرمين الذين يوجهون بنادقهم إلى المدنيين (صحفيين أو غيرهم) وإلى رجال الأمن في الشارع، لرغبتهم في تحقيق ما يرونه «عدالة» بأيديهم. بل وذهب بعض أولئك الجهلة وأنصاف المتعلمين إلى التبريرات، مثلما لجأوا سابقاً إلى التبرير لأفعال القاعدة، ومنطق ابن لادن وبقية زعمائها في ادعاءات المظلومية ودحر الباطل ورفع الجور الذي فرضته الدول الاستعمارية وبعض عملائها في البلدان الإسلامية، كما يدّعون. فبدأ حالياً بعض من وقعوا ضحية تلك الازدواجية في التبرير، بأن لا تثير المجلة الفرنسية الساخرة أو غيرها مشاعر المسلمين، وأن تلك الإثارة هي السبب المباشر لحدوث ذلك الفعل (أو رد الفعل! كما يسميه بعضهم) غير المبرر (وربما لا يصل بعضهم إلى وصفه بالإجرامي والإرهابي!).
وكنت قد استمعت مؤخراً إلى برنامج سياسي فكري في إحدى القنوات العربية، وكان أحد المشاركين فيه شيخ أزهري؛ وقد سئل ذلك الشيخ عن الوضع الفكري الحالي، الذي أدى إلى الحالة المزرية من العنف واستهداف الآخرين بالقتل والترويع، وعن الإمكانات العملية لتجديد الخطاب الديني. فكانت إجابته للأسف موافقة لما يفكر به منظرو الإرهاب، من أن الدين لا يوجد فيه تقاليد. وكأن النص الديني هو الأفعال التي يمارسها البشر، فماذا يريد هواة استغلال الشباب وتجنيدهم أفضل من هذا المنطق، الذي لا يعترف ببشرية تأويل النصوص، ولا يريد أيضاً الاعتراف بالتاريخ الإسلامي الذي تعايشت فيه الأمم والأديان والطوائف المختلفة؟
- الرياض