ينطلق ابن تيمية من الشرع فيقدمه على العقل، لأن الشرع - الرسالة هي التي تهدي العقل وترشده للنافع والضار، ولولا الشرع لأضحى الإِنسان « أسوأ حالاً من الكلب والخنزير والحيوان البهيم « (الفتاوى 10 - 55)، والعقل - في نظره - ليس قسيمًا للشرع بل قسيمٌ للسمعي، لأن الشرع يكون عقليًا باعتبارات ثلاثة: أن يُخبِر بالعقلي، أو يأمر به، أو يدل عليه، وكل ما هو عقلي وخارجٌ عن مسمى الشريعة - بمعنى أن الشرع لم يدل عليه ولم يخبر به - فإنه من قبيل الصناعات كالفلاحة والبناية؛ وعليه فإنه سيكون في العلوم المفضولة لا الفاضلة، « فتكون الشرعية قسمين: عقلية وسمعية « (مجموع الفتاوى 10 - 125).
وبما أنه يجعل العقل تحت الشرع وقسيمٌ للسمعي لا للعقلي فإنه يقسم الطاعات إلى ثلاثة أقسام: طاعات عقلية، طاعات ملّية، وطاعات شرعية. والعقلية هنا ليست مقابلة للشرعية وإنما تحكيم العقل يكون ضمن النص الشرعي، أي أن « الغرض ما اتفق عليه المسلمون وغيرهم من التحسين والتقبيح العقلي الذي هو جلب المنافع ودفع المضار « ( مجموع الفتاوى 10 - 204) فالعقل دائمًا تابعٌ للشرع وينفي عنه صفة التقبيح والتحسين، وهو منطلقه في ذم الفلاسفة لأنهم يقفون عند الطاعات العقلية فحسب بينما الفقهاء يهتمون بالطاعات الشرعية والعقلية بتقديم الشرعية. وأزعم أن ابن تيمية هنا يقع في لبسٍ حينما ينفي التقبيح والتحسين عن العقل ويحصره بالشرع، ثم في موطن آخر يعتدّ بتقبيح العقل وتحسينه ويسميها (الطاعات العقلية) بحسب قانون (الاجتلاب والاجتناب) لمصلحة الإِنسان، فإنَّ كان العقل لا يقبّح ولا يحسّن فما بال الآدميين يتفقون على ما ذكره من أمثلة كالصدق والأمانة والعدل وغيرها ؟!
وتناوُلُ ابن تيمية للتأويل جاء من استحضار الأعذار التي يرى أن العالم يُعذر فيها حينما يخالف نصًا شرعيًا في رأيه، وفرّع ثلاثة أقسام لهذه الأعذار، ومن هذه الثلاثة فرّع عشرة أعذار اخرى، فالثلاثة الرئيسة يتعلق أحدها بدلالة النص وفهمه وهو « عدم اعتقاده (العالم) إرادة تلك المسألة بذلك القول» (مجموع الفتاوى 10 - 293) واثنان فيما هو خارج النص سواءٌ في سنده أو في رده لكونه منسوخا. وخمسة من العشرة الفرعية لهذه الأعذار تتعلق - أيضاً - بدلالة النص؛ وهي الخمسة أعذار الأخيرة وسأوردها إجمالًا هنا :
1 - عدم معرفته بدلالة الحديث.
2 - اعتقاده ألا دلالة في الحديث.
3 - اعتقاده أن تلك الدلالة قد عارضها ما دل على أنها ليست مُرادة.
4 - اعتقاده أن الحديث معارض بما دل على ضعفه أو نسخه أو تأويله.
5 - اعتقاده أن الحديث معارض بما دل على ضعفه أو نسخه أو تأويله مما لا يعتقده غيره أو جنسه معارض.
ونلحظ من هذا أن ابن تيمية يولي فهم النص ودلالته أهمية قصوى لإعذار العالم عن خطئ اجتهاده، فهذه الخمسة الأعذار تدور كلها حول فهم النص أو تأويل النص بما هو داخل النص لا خارجه فيُعيد الخطأ إلى « كون الدلالة من النص خفية، فإنَّ جهات دلالات الأقوال شاسعة جدًا، يتفاوت الناس في إدراكها وفهم وجوه الكلام بحسب منح الحق سبحانه ومواهبه « (الفتاوى 10 - 300)، فإيمان ابن تيمية بأن النص شاسع على الفهم، وأن الفهم متوزع بين البشر يرشدنا إلى استيعاب التأويل وفتح المجال له أكثر حتى يتسنى لنا بعث المعاني القابعة فيه، إلا أن ابن تيمية يحصر التأويل بأمرين :
أن يكون النص متعارضا مع غيره بالاتفاق، وأن لا يحمل النص على ما لا يحتمله اللفظ (الفتاوى 10 - 301)، وحصر التأويل في هذين الأمرين تحجير وتأطير له، وهذا التأطير يحدد ما بدأ به من كون الدلالة شاسعة والفهم متوزع بين الناس فيخصصه بهذين الشرطين. فابن تيمية هنا اتخذ منهجًا أكثر حيطةً من التأويل فهو لم يفتح مجال التأويل كما هو عند ابن رشد، ولم يحدده أيضاً بتحديدات أكثر اتساعا كما هو عند الغزالي، بل أطّر التأويل بشروط تكاد تنعدم خصوصا شرطه الأول في ابتغاء النص المعارِض. ولعل خضوع ابن تيمية للرأي السابق في النص جعل منه يتهيب التأويل، لأن التأويل سيلغي الأقوال السابقة أو على الأقل فإنها سيناقشها، لذا فإنه يرى أنه « لا يمكن للعالم أن يبتدئ قولا لم يعلم به قائلاً: « (الفتاوى 10 - 301) ويعود هذا إلى رأيه في حجية الإجماع واعتماده على الإجماع بتأكيد كبير جدا حتى إنه يُعدُّ « الإجماع أعظم الحجج» (الفتاوى 10 - 302)، وبذا فإنَّ ابن تيمية حبيس الرأي السابق ويدور في فلكه، مع علمنا أن حجية الإجماع مسألة أصولية حولها خلاف كبير.
ومن هنا نستطيع أن ننظر إلى التأويل من علٍ، باستحضار الفكر العربي الإسلامي وتعاطيه للنص، فأهل الكلام والمعتزلة وابن رشد - أيضاً - فتحوا مجال التأويل بشكل واسع جدا، ونقيضهم المدرسة الظاهرية كما عند ابن حزم الذي أغلق التأويل بتاتا واكتفي بظاهر النص، وابن تيمية ليس وسطًا بينهما لكنه يميل إلى ظاهر النص ويفتح شرفةً ضئيلة جدا على التأويل ليخرج بها من إشكال تعارض النصوص المتفق على تعارضها.
صالح بن سالم - المدينة المنورة