سئمتُ تكاليف الحياة ومن يعش
ثمانين حولا لا أبا لك يسأم
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب
تمته، ومن تخطئ يعمر فيهرم
ومن لم يصانع في أمور كثيرة
يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم
ومن يجعل المعروف من دون عرضه
يفره، ومن لا يتق الشتم يشتم
ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله
على قومه يُستغن عنه ويُذمم
ومن يوف لا يذمم ومن يهد قلبه
إلى مطمئن البر لا يتجمجم
هذا هو المشهد الثاني من نص زهير بن أبي سلمى الشاعر الجاهلي الذي سجل التاريخ اسمه كواحد من أشعر شعراء الأدب العربي، وسطر نصه هذا كواحد من أشهر المعلقات في تاريخ الشعر العربي، وقد كنت قبلُ قد توقفتُ عن بعض جماليات المشهد الأول، ورأينا آنذاك كيف أبدع زهير في تذكير أولئك الأحلاف بالقسم الذي أقسموه، وكيف حذَّرهم من مغبة الخيانة والإخلاف، واستمتعنا معاً حين استمعنا إلى حديثه عن الحرب، وكيف صوَّرها بصورةٍ شنيعةٍ وشكلٍ قبيح، تجعل المرء يفكر ألف مرة قبل أن يقدم على فعل أسبابها أو تحريك رحاها.
وفي هذا المشهد ينتقل زهير بن أبي سلمى إلى موضوع آخر وخطاب مغاير حين يتحفنا بروائع حكمته وعميق تجربته، ويسرد علينا مجموعة من التجارب والخبرات التي اكتسبها في حياته وخبرها خلال عمره، فظلت إلى يومنا هذا حكماً وأبياتاً يُستشهد بها ويتمثل بها في كثير من المواقف الحياتية.
فهو يكشف في البيت الأول من هذا المشهد عن سأمه من الحياة وملله من الدنيا لكثرة مصائبها وشدائدها وتزاحم مشاقها وتكاليفها، ويبين أنَّ المرء حين يصل إلى عمر الثمانين لا بد أن يسأم ويمل كما فعل هو، ويتضح في هذا البيت جمال الإيقاع من خلال رد العجز على الصدر، ففي صدر البيت يقول (سئمت) وفي خاتمته يقول (يسأمِ)، وفيه تأكيد على السأم الذي يصيب الإنسان حين يبلغ تلك المرحلة العمرية المتقدمة، وقد كثرت شكوى الشعراء من هذه المرحلة العمرية تحديداً، كما عند الشاعر الذي يقول:
إنَّ الثمانين وقد بلغتها قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
وفي البيت الثاني من هذا المشهد نجد حكمة أخرى من حكمه المذهلة التي يصوغها لنا بأروع أسلوب وأجمل تعبير، فقد صوَّر لنا موقفه من الموت ورؤيته له وتصوره له، فهو يرى أنَّ الموت مثل الناقة العمياء التي لا ترى، فهي تسير في الطرقات، فمن تصبه وتصدمه فقد وافته المنية وفني ومات، ومن أخطأته وتجاوزته فقد نجا من الموت وطال عمره وبلغ مرحلة الكبر والهرم، ومع جمال التصوير وروعة التشبيه والتعبير إلا أننا لا يمكن أن نغض النظر عن المخالفة الشرعية في هذه الرؤية، فالموت ليس يخبط خبط العشواء ويصيب الإنسان صدفة ودون علم الله المسبق، بل هو قدر من أقدار الله جل جلاله، ولكل نفس أجل مقدر ويوم محدد قد كتبه الله في اللوح المحفوظ كما قال جل وعلا في كتابه الكريم:
وفي البيت الثالث يتحفنا زهير بن أبي سلمى بحكمة أخرى من روائع حكمته، يكشف فيها عن فن المعاملة مع الناس ويعطي أساساً من أساسات التواصل فيما بينهم، فهو يخبر هنا أنَّ المرء الذي لا يجامل الناس ولا يسايسهم في كثير من أمورهم وتعاملاتهم سيلقى منهم أذى كثيرا ومضايقات كبيرة، وهو هنا يصور هذا الأذى وتلك العاقبة التي ستترتب على عدم المصانعة والمجاملة تصويراً بديعاً رائعاً يتماهى مع البيئة البدوية المحيطة ويتسق معها، فالأذى المترتب على عدم المجاملة يشبه العضَّ بأنياب حيوان متوحش والوطء بخفِّ بعيرٍ ثقيل الخطوات، وفي كل هذا تنبيه من شاعرنا النبيه بضرورة المصانعة في كثيرٍ من المعاملات، والمجاملة في كثير من الأمور؛ لأنَّ العاقبة من عدم فعل ذلك ستكون بلا شك وخيمة، والأذى الذي سيترتب على المخالفة سيكون شديدا جدا.
وفي البيت الرابع نجد حكمة أخرى من شاعرنا الحكيم، يجود بها علينا بعد أن عاش الحياة بطولها وعرضها، فجرَّب وخبر وعرف، فصاغ لنا رؤاه العميقة وتجاربه الحكيمة، ولذلك هو يكشف هنا عن ضرورة بذل المعروف وفعل الخير والاستمرار عليه، فإنَّ من شأن ذلك أن يصون عرضه ويحفظ كرامته، وفي هذا تأكيدٌ على الاهتمام بالمبادرة بفعل المعروف وعدم ادخاره، فإنَّ النتيجة المترتبة على ذلك تستحق أن يُفعل لها ذلك، وهل هناك أفضل وأجمل وأحسن من عِرضٍ مصون وكرامةٍ محفوظة؟ وفي الشطر الثاني من البيت نفسه نجد حكمة أخرى تتصل بالحكمة السابقة، يرى فيها زهير أنَّ الذي لا يحفظ نفسه من الشتم والسبِّ والهجاء لا شكَّ أنه سيصل إليه ذلك ويصيبه ما كان يتقيه من الشتم؛ لأنه لم يفعل الأسباب الكفيلة بحفظه من كل ذلك، وفي هذا الشطر تأكيدٌ للشطر الأول من البيت، حيث إنَّ بذل المعروف من أسباب اتقاء الشتم، أما البخل والشحُّ فله عاقبة أبى شاعرنا المجرِّب إلا أن يفرد لها بيتاً مستقلاً من نصِّه المتألق.
لذلك نجد الشاعر في البيت ا لذي يليه يكشف لنا عن صفةٍ ذميمةٍ وخلةٍ قبيحةٍ هي البخل والشحُّ والتقتير، خصوصاً حين يكون ذلك البخيل غنياً قادراً صاحب فضلٍ كبيرٍ ومالٍ وفير، فيؤكد على قبحها وشدَّة كراهيته لها من خلال تصوير العواقب المترتبة على هذا البخل، خصوصاً حين يكون على قومه وأهله وجماعته، فإنه يكون حينها أشنع وأبشع، فإنَّ مَن يبخل على قومه وهو ذو فضل وغنى فإنَّ قومه لا حاجة لهم به، فهم مستغنون عنه غير مهتمين به، وليت الأمر يقف عند هذا، بل إنه سيلقى الذمَّ والهجاء والكراهية والشتم، وهي صورةٌ تقابل الصورة الأولى في البيت السابق، وتؤكد في الوقت نفسه ما ورد فيها.
ويختتم شاعرنا العربي صاحب هذا المشهد من هذه المعلقة المتألقة في كل شيء ببيت أخير يروي فيه حكمة أخرى من حكمه التي يفيض بها نصه العميق، وهي حكمة تكشف عن ضرورة الالتزام بخلق رفيع من الأخلاق الإنسانية التي جاء الإسلام ليؤكد عليها في مختلف التعاملات، وهو خلق الوفاء بالعهد والإيفاء بالوعد، فإنَّ أقل ما يمكن أن يجنيه الإنسان من هذا عدم تعريض نفسه للذم، وفي هذا تلميحٌ لأولئك الأحلاف وتأكيدٌ لهم مرة أخرى على جمال صفة الوفاء وقبح الإخلال بها.
أما الجزء الآخر من هذا البيت الختامي فقد جاء فيه حكمة أخرى تكشف عن ضرورة فعل الخير والعمل به وعدم التردد فيه، فإنَّ المرء الذي يهديه اللهجل وعلا إلى فعل ذلك ويرشده إلى الإحسان وبذل المعروف إلى كلِّ أحدٍ فإنه لا يتردد إطلاقا في فعل ذلك، بل يصبح هذا الفعل عادةً جميلةً وخلةً مستمرةً تسعده وتسرُّه حين يقوم بها في أي زمان وفي أي مكان، وأياً كان ذلك الذي يستقبل هذا الإحسان.
لم يُختتم نص زهير.. ولم تنقض حكمه الرائعة.. ولم تنته تجاربه الدقيقة ورؤاه العميقة.. بل تبقى الكثير الوفير منها.. سيسعى الجزء القادم إلى قراءة شيء من بدائعها وجمالياتها.
- الرياض
omar1401@gmail.com