مثل شخص جالس في طائرة وأمامه شاشة صغيرة تعرض مسار الطائرة باللون الأخضر والطائرة تحلق فوق سفوح الجبال ومياه البحار، والمسافر المشاهد الخائف من التحليق عاليا «مثلي» يحسب الدقائق والثواني ولا يستطيع حساب الوقت على الخارطة ولون مسار الطائرة الأخضر يسري بين التواءات وانحناءات الخارطة، فيضنها ستصل بعد ثوان إلى المطار كما على الخارطة!
مثل هذا اللون الأخضر الذي يرتسم على خارطة العالم في الطائرة، يسري اليوم بخط أسود بين مدن العالم وتقنيي المنظمات الإرهابية يرسمون لون المدن التي يحتلونها أو يهدمونها ويبثون خرائطهم على «اليوتيوب» ونرى المدن التي تتلون بالأسود على خارطة اليوتيوب، وغداً قد تصبح لديهم طائرات تنقل مسافريهم وعلى متنها شعارهم الأسود والأبيض يبشر المسافرين بمدن جديدة تنبت عليها رايات الخوف السوداء!
الفضائيات العربية والعالمية تتفاوت في حجم البرامج التي تبثها عن هذه «المحنة» التي فرضت نفسها على «مهنة» الإعلام!
يعمل في هذه الفضائيات عدد من المثقفين والمبدعين متخذين من الإعلام «مهنة» بعد أن أصبح الإعلام «مهنة» مربحة تجزي رواتب مغرية تجاوز بعضها العشرين ألف دولار شهرياً وحتى أكثر من هذا الرقم بكثير لو حسبنا البرامج المضافة وكتابة تعليق البرامج ومخصصات السفر والملابس والزينة!
يعرض لنا الإعلام مدننا المهدمة التي أصبحت نصبا للخراب، يعرضها ممتزجة بالمؤثر البصري والصوتي. فيبكي المشاهدون ويعلن مقدم البرنامج نهاية النشرة بالقول «في أمان الله» بعد أن يعرض لنا مدينة الموصل «نينوى» التاريخية بنصبها ومساجدها المهدمة التي أصبحت فتاتاً من الحجر والرخام أو مدينة «البصرة» العراقية التي كانت مزدهراً للشعر في مهرجان المربد، وقد اغتيل فيها أئمة المساجد! ولقد تم مرة واحدة نحر خمسة وعشرين صحفيا كانوا يعملون في فضائية مدينة الموصل وقعوا في قبضة داعش عندما احتلوا المدينة وهم مجرد مهنيين وتقنيين في تلك القناة الفضائية.
يعرض لنا الإعلام المصور مسار الأرهاب في الخارطة على «اليوتيوب» متوجها نحو سيناء وعائدا نحو صنعاء ومتعرجا باتجاه البقاع اللبناني!
لم يعد الإعلامي الذي يبث لنا صور المدن التي أصبحت نصبا للخراب سالما وهو في بلاتو القناة الفضائية أو في مكتب الصحيفة وعليه أن يحسب لكل كلمة ألف حساب ولكل صورة مليون حساب!
في العراق أعلنت نقابة الصحفيين أن عدد الصحفيين الذين غيبوا من الحياة حتى الآن قد تجاوز عددهم الأربعمائة صحفي. هذا فقط من الصحفيين وأكثر من هذا العدد من الأدباء والفنانين والحرفيين أصحاب الحرف الإنسانية والعلمية.
هل كان العاملون في مهنة الإعلام يدركون وهم يصيغون النبأ المصور ويضيفون عليه كل أنواع المؤثرات البصرية والصوتية بأن ذلك سوف يرتد عليهم؟
لقد لعبت مصانع الإعلام دوراً «جدليا» من التأثير والتأثر في الوصول إلى هذه المحنة عبر هذه المهنة! مهنة الصورة الإعلامية التي لم تفكر الأمة ولا القائمون عليها بمخاطرها المستقبلية. هم فرحون في برامج تحلق حرة في أثير الفضاء وتدخل حرة في بيوت الناس، فيغادرون بلاتوهات القنوات الفضائية ويتصور معهم المارة في شوارع المدن!
واليوم أصبح الإعلامي الشهير في محنة المهنة.
الشهرة سهلة. الصعب هو الإبداع!
لقد أصبح الإعلامي الشهير اليوم في محنة حقيقية بعد أن اتخذ الإرهاب نمطا جديدا غير ما عرفناه في أعوام سابقة!
لابد من إجابة على سؤال، من صنع هذه المحنة في هذه المهنة!
تابعت مرة مؤتمراً في الخليج عن الفضائيات. كل المتحدثين وكل البث المباشر وكل الدعوات للكتاب والمختصين مروا على السطح في دقائق معدودات ولكن لم يذهب ولا حتى متحدث واحد إلى عمق المحنة في هذه المهنة! وبوعي أو بدون وعي صرنا نعيش جدل الخراب في أن نسهم في تحقيقه ونشاهده وندفع ثمن المشاهدة دما وليس حبرا!
هذه المهنة مهنة الإعلام وصناعة الإعلام وهدف الإعلام لم يتأسس بهدف بريء ولم يتأسس بهدف نبيل، لأن من يبذخ في صرف كل تلك الأموال لا بد وأن يحقق ربحا!؟ وهذا الربح هو في النهاية اقتصادي، وإن كان يبدو في بدايته غير مرئي، لا نستطيع نحن أن نراه أو نعد سبائكه الذهبية ومدلولها الورقي المسمى «نقداً»!
هي أرباح بعيدة المدى تزخ نحو الحسابات في المصارف. هي ليست عملية ربحية مثل بيع وشراء السلع تعرفه وتحسب فائض القيمة في لحظة البيع والشراء. هي عملية حسابية أتضح أنها مرسومة ومخطط لها على مديات بعيدة، وفي هذا تكمن المحنة في المهنة!
- هولندا
k.h.sununu@gmail.com