قريتي بمبانيها الحجرية ومساربها وطرقاتها وجرنها وناسها ومصاطبها الزراعية وبساتينها تمثل العالم بأسره.. هذا ما كنت أظن، الجبال الشاهقة المحيطة هي أقصى ما يمكن مشاهدته، بعدها تأتي السماء كرداء أزرق، جبل ضخم يحف بغابة من أشجار العرعر، تتلبسني حالة من الرعب والدهشة حين أدقق النظر فيه جبل بهول، وفي الجانب الآخر يأتي جبل على شكل ظهر الجمل (الحبناء) يرتمي طرفه الأيمن ليصل إلى وادي منخفض تجري مياهه معظم أيَّام السنة، وحين أصعد على سقف منزلنا الصَّغير أشاهد جبل القابل الذي ينخفض صدره قليلا، ليصوب رماة العرضة فوهات بنادقهم تجاه صخرة نسيت طريقها فبقيت مكانها كعلامة بارزة ومثيرة.
هذه القرية التي تحتمي خلف جبل القردود وتستأنس بوادي قوب الذي يغذيه بهول يجري كالفضة، مياهه تجلجل الأحجار الصَّغيرة وتقذف بها في مواقع بعيدة. الناس متساوون في مستواهم المعيشي هذا الذي زاد من ترابطهم وتكاتفهم لذا كان كل سكان القرية بمثابة الأسرة الكبيرة متراحمين متعاونين والشواهد كثيرة سواء عند بناء المنازل ووقت الطينة - تشييد أسقف المنازل بالخشب وأنواع من أغصان الشجيرات بعدها يغطى بالطين، النسوة يجلبن الماء بواسطة القرب من الآبار والرجال يتساعدون في حمل الحجارة والطين وتسويته، أما في الزيجة فيمكن القول ان استعارة الأواني من مصابيح إضاءة وصحون وقدور ودلال وفراش من الجيران فضلا عن المباركة أو ما يسمى الرفد بهدف إعانة المتزوج ولا سيما أن الظروف المعيشية قاسية جداً.
قريتي هي العالم، لا أعرف شيئا عن غيرها، بيتنا الحجري الصَّغير رضمت جدرانه من الحجارة بشكل متقن، يعلوه سقف خشبي مغطى بالطين المتيبس يحمينا من البرد والحر والمطر والشمس، والدتي تعتني به خصوصا في أوقات الأعياد كنت ألمح أصابعها وهي تضع خطا من الألوان الزيتية على ارتفاع متر تقريبا بعدها تشرع في دهن الجزء الأسفل فيصبح حزاما أخضر يعلوه بياض الجير، هذا هو مجلس الضيوف فرشة من سعف النخل تعلوه سجادة إيرانية ألوانها فاقعة، يطل الجالس من نافذة صغيرة مزينة بأعمدة حديدية، مدهونة ببوية خضراء، أما الجانب الاخر فيوجد به غرفة صغيرة نسميها عليّه، ومجاور لها مكان الطهي يفصل الغرف عن بعضها أخشاب من شجر العرعر، خُلبت بالطين ودُهنت بالشيدة هذا بيتنا والذي تماثله بيوت الجيران، وجيران الجيران.
نحتفي ببيتنا إذا اقترب العيدان، ويزداد في عيد الفطر، نساء القرية يذهبن إلى جبل «بهول» ليغترفن من تربته البيضاء والحمراء ويضعنها بأيديهن الكريمات في الجدران لتزيد بياضا، ويفرشن الأرضية بالتربة الحمراء بعدها يواصلن العمل الفني من خلال فرشاة صغيرة ليزيد بهاء المنزل، أما الزافر الذي يحمل منزلنا على هامته فيثيرني فيه شيئان صبره وجماله، إِذْ يمتلئ بنقوش على أشكال أوراق النباتات وأشكال هندسية وكذلك نقش يشير للعام الذي تم فيه بناء البيت، محفور بسن حديدي ليبقى خالدا لعشرات السنين.
تولدت ألفة بيني وبين الزافر، ليس لكونه كان يحمل بيتنا على رأسه، أو أنه يتميز بتلك النقوش البديعة، بل لأن عيناي صافحت هذا الوجه الخشبي قبل أن أدرك معاني الأشياء..
الجدار يحمل أسرارا ومن بينها فتحة مجوفة نضع فيه أشياءنا الثمينة، حجل فضي، عقد من مفارد الظفار، حاولت مرارا ان أصل إليه إلا أنني لا استطيع فيصيبني الحزن.
حين يهمي الليل، ويقترب موعد النوم، ينتزع شقيقي عمودا خشبيا من فتحة دائرية تمتد نحو الأسفل ليضعه خلف الباب، نسميه الرصد.. لا اعرف الأماكن المجهولة في الدور الأسفل، الظلمة الحالكة في الليل والنهار، تجعلني ارتاب دون محاولة الدخول، لذا بقي السفل لغزا محيرا حتى بعد أن استأنس ببقرة حلوب تتعامل أمي معها فقط..
في صبيحة يوم استيقظت بسبب الأصوات العالية التي جاءت من الساحة الخارجية، نفضت جسدي من الفراش، ومشيت نحو الدرج متخطيا سلالمه الحجرية لأقف مندهشا، ساحة السوق مليئة بالناس والبضائع، ودكاكين صغير ارتصت بانتظام على جانبي السوق، وجوه غريبة، يحمل البعض أكياسا على شكل أكواز الذرة إلا أنها مليئة بالكتابة الإفرنجية، سوق الأحد في ذروته اكتشاف لذيذ، والدي أيضاً يشارك في البيع من دكانه الملاصق لبيتنا، لفت انتباهي تلك العلب الأسطوانية التي وضعت بشكل منظم فوق بعض، ملفوفة بأوراق مرسوم عليها أشكال بألوان جذابة. شعرت بنشوة ليس لقطعة الحلوى بل لأن دكاننا مليء بأنواع من الحلويات والعلب والأكياس وغيرها، والدي منهمك في البيع، كسا ذقنه شعر أبيض لا ادري لماذا شعرت وقتها أن أبي هو أجمل الناس، عدت إلى البيت لتمنحني والدتي دفئا من حبها، كسرة صغيرة من خبز الحنطة نهشتها بأسناني غير المكتملة.
ما أن يجلس أبي في مكانه المعتاد حتى تسارع أمي لتقديم سفرة الطعام نلتف جميعا، لا نلقى اهتماماً للقطة التي تموء حيث سيأتيها طعامها مما تبقى من الغداء لتتصارع هي وقطط الجيران فوق سقف المنزل.
والدي يلتقط الراديو من مكانه المصان ويحرك بسبابته بكرة دائرية صغيرة ليشنشن ويدندن يستقر على موجة يرتضيها نكتفي بالاستماع بعدها يعيده في موقعه هكذا كان والدي يفعل.
أكثر ما يشد سماع أبي الحداء البدوي ربما يعيد له أشياء جميلة في الماضي. اشعر بفرح كبير حيث تمحضني جارتنا بشيء من عطفها حمص، زبيب، تمر، لأخرج إلى فناء المنزل لألقي بنظري إلى الغادي والرايح وكذلك المنازل الملاصقة والمجاورة، من بينها منزل يقف أمام منزلنا بناء حجري متقن، تزين هامته أحجار تبرز بانتظام متوازنة، وقفت متأملا وجه المنزل الذي يرتفع قليلا عن المنازل المجاورة، كنت محتارا كيف لهذا البيت دون أبواب، هكذا كنت اعتقد، فقط نوافذ بعضها مغلقة، ومرزاب يمتد كلسان يندفع من جوفه الماء في أعقاب المطر.
ساحة صغيرة أمام منزلنا، هي المرتع لأبناء الجيران، الساحة الدرس الأول في إيجاد علاقة مع أقراني،
ذات صباح أيقظتني أمي لا ادري لماذا؟ إلا أن شيئا استشفه في ملامح والدي، ارتديت الثوب، ولبست القبعة، ولففت أمي العمامة البيضاء على رأسي، سبقني شقيقي، سرت خلفه اتجاه المدرسة مرورا بطرق ضيقة تنحشر بين المنازل، فيما تحف النباتات الطريق وصلنا إلى المدرسة، مبنى إسمنتي، يتكون من عدة غرف، بنيت على سنام جبلي، وقبل أن ندلف المدرسة، توجد بوابة على شكل قوس من الطوب الصَّغير، لتفضي إلى باحة داخلية، ثمة فصول على اليمين، وأخرى على اليسار، متساوية الأحجام، أطلق أحد المعلمين صفارة ليتحلق الطلاب في الفناء، بعدها يتم تفريقهم على جنبات الفصول، على شكل دائرة واسعة، كان المعلم ذو السروال البني والقميص الشبيه بلون الزبدة، يطلق الصافرة بين الحين والآخر، قامته الطويلة تسبب الكثير من الخوف لتلاميذ الصف الأول الابتدائي، بدأ يعلمنا تمارين الصباح، يرفع صوته كأنه يخرج من قدر نحاسي، واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة. يلتهم بعض الحروف وقف مدير المدرسة في منتصف الفناء وبدأ يتحدث، بعدها اختار معلم الرياضة لنا فصلا لندلف إليه، ثمة كراسي ومقاعد خشبية سبورة سوداء وصندوق حديدي مقفل في الجانب الأيمن، عرفت فيما بعد أنه مقصف المدرسة، يبتاع الطلاب من رجل مسن يعمل في تقديم الخدمة للمعلمين، محتويات الدولاب بسكوت حلويات، يبدأ في البيع بداية الحصة الثالثة.
وقف المعلم أمامنا بوجه مضيء عينان يحيطهما جلد منطوي ثمة شعر مختلط بين البياض والسواد ملأ ذقنه، يحمل عصا صغيرة كتب على السبورة لم نع ماذا تعني ؟. جاء مدير المدرسة ومعه عدد من المعلمين طلب المدير من كل تلميذ مسك أذنه اليسرى بيده اليمنى كنا نظن بأنها لعبة ليتم إبعاد طالبين أحدهما صديقي، حزنت، إلا أنني لم استطع الاحتجاج.
نذهب للمدرسة ونعود لمنازلنا دون أن تكون لنا رؤية واضحة، أكثر ما يقلقني تلك العصا النحيفة التي يقتطعها المعلم من شجيرة صغيرة بجوار المدرسة ليعاقب تلاميذه عن أي خطأ.
ويمتد أسلوب التعذيب بأن نحمل أحيانا شنا يابسا على رؤوسنا ونتجول بين الفصول مع الإعلان عن بلادتنا أمام الطلاب الآخرين.
..يتبع
جمعان الكرت - الباحة