قراءة نقدية في نص «مقتطفات أنثى» للشاعرة جيهان الكندي
نشرت في الجزيرة – الجمعة 13-11-1436هـ.
(1)... عبر عشرة مقاطع شعرية،يأخذك هذا النص/ المدهش - حد الاحتفاء والانتشاء - إلى عوالم إبداعية تتوج ناصية القصيدة النثرية التي نفتقد جمالها وشعريتها في كثير من النصوص المعاصرة.
النص بعنوان: «مقتطفات أنثى» يكتنز شعرية لافتة،ويقطر إلهاماً وإبداعاً،تتنامى مقاطعه العشرة في تصاعد موسيقي على نوتة ملحن فنان.. ترسمها
«جيهان» بريشة رسام يتقن أبجدية الأحافير وشظايا الألوان..
(2) لن أدلف للنص من مقطعه «المفتتح» فهو يشكل - عندي - نهاية النص المدور الذي اشتغلت عليه الشاعرة بنجاح تام،فهي توحي للقارئ بأنه نص افتتاح بينما يتأمله الناقد على أنه نص ختام.. وهنا الإبداع، حيث يلتقي الختام بالمفتتح فتتشكل الدائرة الشعرية التي يخلقها النص النثري!!
(3) ولذلك سأبدأ مكاشفة النص من المقطع السابع الذي أعتبره غاية الإبداع ومنتهى الشعرية/ معنىً ومبنىً. تقول فيه:
«أدب حديد الصمت هذا/ حدثني بكلمة تغلق كل المنافذ/ بألف مفتاح/ وتجعلني لك وحدك/ أصغي/ حدثني ما بين الرقبة والأذن/ فهنا منطقة شائكة/ قبلها حرب/ وبعدها احتلال../ استعمرني وبدد ثرواتي/ فجرائم الحب/ معك ولك.. مباحة».
هنا قمة الأنوثة ونضجها،مداها الذي يعرف الأسرار ويبوح بها.. هي في حالة شرود،وتمرد،تريد الانصياع للحبيب الذي يتقن الهمس والوشوشة،وهي تدله على المكان الأقرب للروح.. للتوحد.. لذوبان حديد الصمت،إنه المكان الممتد بين الأذن والرقبة!! إنها دعوة للقرب الجسدي من خلال الوشوشة/ الحديث الهامس عبر الأذن -حاسة السمع- والرقبة/ العنق حاسة الرغبة الشبقية والشغف!!
هذه هي المنطقة المكان/ التي تذيب الحديد.. «فهنا منطقة شائكة،قبلها حرب،وبعدها احتلال»... أي إبداع هذا يجمع بين الحس والمعنى،يجمع بين المدرك والمعقول،يجمع بين اللذة والرغبة: «استعمرني.. فجرائم الحب معك ولك.. مباحة»!!
في هذا المقطع تبدو دلالة «الكلمة» ورمزيتها ودورها في الكون الغزلي. إنها تذيب حديد الصمت،تغلق كل المنافذ عن غير قائلها،تجعل الإصغاء حالة فطرية محددة لأحد ما.. وليس للكل!! «حدثني بكلمة تغلق كل المنافذ/ بألف مفتاح/ وتجعلني لك وحدك أصغي».
(4) وإذا انتقلت إلى محور آخر،سنجد مفردة «الشتاء» التي أخذت -بدلالتها ورمزيتها- تجوس ثلاثة مقاطع- وهي أطول مقاطع النص- ففي المقطع الخامس/ أضافت الشتاء إلى الأنا المسيطرة على هذا المقطع. «أنا أنثى الشتاء»!! تصريحاً،التي حولتها -في هذه المقاربة- إلى عتبة عنوانية لها شعريتها الخالصة. أو تلميحاً عبر ياء المتكلم (ثيابي،أناملي،حجرتي،تستهويني،نافذتي،فمي،أنفي،أطراف أصابعي،روايتي،لكنِّي أعشق الشتاء)!!
في هذا المقطع تبدو (أنثى الشتاء) وهي تصف حالتها مع هذا المارد المناخي،ورغم قسوته فهو أليف،معشوق «فصل مختلف في الرواية»!!
وفيه نجد المسلمات الشتوية: ماء المطر،القهوة الساخنة،بخار الأنفاس،برودة الأطراف والأنف،ومن خلال هذه المسلمات تبدو جماليات النص فالكتابة تتحول من الورقية إلى الزجاج،والحبر من الدواة إلى بخار الأنفاس،والكلمات تهتز عند خروجها من الفم بفعل البرودة القارسة/ فنحن أمام الشتاء قولاً وعملاً،حساً ومعنىً!!
أما المقطع الثامن: «صباح نوفمبري بارد/ يضج بالرومانسية ويرتمي بجانب عصفور النافذة ليدفى.. صباح الرضى.. «فالمعروف أن «نوفمبر» هو شهر العشاق والرومانسية،هو أول شهور الشتاء في شرقنا العربي وفيه البرد وقمة الاحتياج الجسدي للدفء!! كذلك العصفور بجوار النافذة!!
وأما المقطع التاسع -آخر مقاطع الشتاء- فهو الرسالة الشعرية التي تبثها
(أنثى الشتاء) للوليف الصَّاد/ المبتعد،طالبةً الوصال لكيلا تتحول «المشاعر إلى دمية «نحشوها بالقطن لتدفى».
(5) وإذا عدنا إلى المقاطع المتبقية، سنجد فضاءات من المعرفة العقلية/ الفلسفية تبثها الشاعرة في ثنايا المعطف الأنثوي/ الشتوي، ففي المقطع الثالث نجد فكرة الصفر في الرياضيات وقيمته ودلالته إن جاء قبل، أو بعد، يميناً أو يساراً.
وفي المقطع السادس نجد فكرة التوحد والاتحاد بدل الثنائيات المنفرة « متى نلتقي بصفحة واحدة على معنى واحد «؟! وفي المقطع ا لتاسع نجد فكرة الفلسفة اللونية فـ(الأزرقان ) لون الفراق واللقاء في مقابل البعد والوصال في حياة الأنثى، وهذا عكس المعنى الدلالي للون الأزرق لون الثقة والهدوء والاستقرار ولكن المشاعر اعتبرته لون الفراق والدم المتجمد.
وفي المقطع الثاني نجد الفلسفة الموسيقية، فالوتر المشدود لا يعطي سيمفونية مطربة. سيصدر صوتاً نشازاً مؤلماً يفسد الذوق العام !!
(6)وأخيراً نعود إلى المقطع الأول/ النَّص المفتتح والذي يصلح – نقدياً- أن يكون الختام !! ففية قفلة شعرية لمَّاحة، وفيها من البلاغة القديمة ما يسمى بالجناس وهو اتفاق أو تشابه كلمتين في اللفظ واختلافها في المعنى ويسمى جناساً تاماً. أو اختلاف الكلمات في بعض الحروف واختلاف في المعنى وهذا هو الجناس الناقص/ السالب.
يقول المطلع:
«معاليك/ كلمات مصابة بقصر القامة/ فلا تطول معانيك «نلاحظ كلمة معاليك،ومعانيك ففيهما جناس بلاغي وصوتيم شعري ولغة مكثفة تصلح أن يكون مقطعاً من النصوص الومضية أو الـ»ق.ق.ج»،كما يصح أن يكون. أحد منطلقات قصيدة النثر وعناصرها الثلاثة (التوهج،الإيجاز،المجانية) ويمكن أن تكون إحدى علامات النصوص المدورة ففيها هندسة صوتية وخيال ودهشة وتكثيف لغوي وإحساس صادق.
(7) وهكذا -عشنا نقدياً- مع إحدى النصوص الشعرية الفاتنة،المثيرة للذهن الناقد،حاولنا تفكيكها وتشريحها بنيوياً ففيها ترتيلة وجد وانصهار لغة ومنها تنثال صورها وبلاغتها وشعريتها أفقاً مضيئاً وواحةً خصبة!!
د. يوسف حسن العارف - جدة