سأترك الكثير من الكلام الذي خرجتُ به من دراستي لهذا الاتجاه الفلسفي، مكتفيًا بنقاط ميسرة واضحة، أراها الأهم في نظري للمبتدئين المستهدفين بمقالاتي الرامية إلى تبسيط الفلسفة بشكل عام.
الفلسفة الطبيعية ببساطة في فهمي الخاص، هي فلسفة وثيقة الارتباط بالتربية، فهي تصب جلَّ اهتمامها على (عواطف الإنسان وهوى نفسه)، وتبتعد بل تعارض الفلسفات والآراء الأخرى التي ترى مثلا أن التربية قائمة على حفظ الكتب وجمال الأشكال والأساليب.. فالعواطف ومشاعر النفس وأهواؤها هي القواعد الرئيسية التي ينبغي أن تُبنى عليها صروح التربية والاجتماع السليمة، وغيرها من الصروح والكيانات في نظر أصحاب هذا التيار الفلسفي.
والحقيقة أن هذه الفلسفة الطبيعية تحديدًا -المقصودة في مقالي هذا- ظهرتْ في أواخر عصر النهضة أو لنقل: ظهرتْ مع مطلع عصر التنوير. وبذلك يُفسّر الكثيرون ظهورها أنه جاء كردة فعل على ما كان منتشرًا في العصور الوسطى السابقة لها، من جمود في التعليم، ومبالغة في الميول الدينية والمثالية، فأحدثتْ هذه الفلسفة حراكًا طبيعيًا يهدف إلى نفخ روح جديدة مرنة في جسد التربية المتهالك في نظر فلاسفتها.
إنها في تصوّري فلسفة الحسّ، والعاطفة، وترجيح أهمية (الرومانسية والهوى) والخيال والعواطف على أهمية العقل والمنطق، والحفظ والتلقين.. ومن أبرز فلاسفتها بلا شك جان جاك روسو، الذي ولد في جنيف عام 1712م، لأم سويسرية وأب فرنسي، وعاش في جنيف طفولته وبدايات شبابه، ثم انتقل إلى باريس وهو في حدود الثلاثين من العمر، وبعد عدة تنقلات ورحلات استقرّ به الحال في باريس وكتب فيها الكثير، ومن ضمن ما كتبه فيها أهم مؤلفاته، وهو كتاب «العقد الاجتماعي».
وكان روسو في كتاباته بشكل عام مناصرًا وداعية متحمسًا للديمقراطية والحرية والعدالة والمساواة بين الناس أمام القانون. واشتغل في بداياته بعدة أعمال ومهن، حتى وصل إلى تعلّم الموسيقي واللاتينية والفلسفة، وبعد ذلك أقام زمناً في مدينة البندقية تبعًا لعمله، فقد كان كاتبًا للسفير الفرنسي فيها.. ولكنه في النهاية رجع إلى باريس وهو في منتصف الثلاثينات من عمره تقريبًا. وفي باريس تعرّف على المفكر الفرنسي «بريد رو» وكتب في موسوعته الكثير عن الموسيقى.
لقد أصبح جان روسو عن جدارة واحدًا من أكبر مفكري القرن الثامن عشر بفرنسا خاصة وفي أوروبا عامة، نظرًا لجهوده الحثيثة العظيمة في التنوير، ومن هنا يُعتبر بلا شك من أبرز الممهدين للثورة الفرنسية، التي لم يتوقف تأثيرها على أوروبا، بل امتد لجهات مختلفة من العالم، فنمتْ وترعرعت بعدها -وبفضلها- كثيرٌ من الجمهوريات والديمقراطيات الحرة والليبرالية، وانتشرتْ وتمددتْ العلمانية، وتطوّر وتبلور- بتأثيرها- عددٌ كبيرٌ من الأيديولوجيات الحديثة المختلفة كما أسلفنا في الحديث عن هذه الثورة العظيمة المبهرة في مقالات سابقة.
يُنعت كتاب روسو الموسوم بـ «العقد الاجتماعي» بأنه (إنجيل الثوار)، وفي هذا رمزية قوية ذات صبغة دينية، فهذا الكتاب الذي أثر وحرّك كثيرًا من العقول والأجساد باتجاهات مستنيرة حداثية، يشابه الإنجيل في تأثيره وتحريك كثير من المؤمنين به، وقد بدأه روسو بالاحتجاج الصارخ على طغيان عصره، ومن ذلك قوله البديع مثلا: «يولد الإنسان طيبًا خيَّرا بطبعه؛ ولكن المجتمع هو الذي يفسده». وتقوم نظرية روسو على وجود تعاقد بين الإنسان والمجتمع الذي يعيش فيه ، وهذا العقد الاجتماعي يُلزم الإنسان بالتخلّي عن شيء من (حرياته وحقوقه) من أجل هذا المجتمع؛ ولكن المقابل ثمين أيضًا وهو أنْ يضمن له المجتمع (الحماية والأمن والاستقرار)، بكل ما يجب أن تعنيه هذه الكلمات من المعاني.
انظروا مثلا إلى بديع قوله الذي أمتعني في كتابه عن العقد الاجتماعي، حيث يقول: «أدّى الانتقال من الحال الطبيعية إلى الحال المدنية إلى تغيير في الإنسان جدير بالذكر كثيرًا، وذلك بإحلاله العدل محل الغريزة في سيره، وبمنحه أفعاله أدبًا كان يعوزه سابقًا، وهناك فقط، إذ عقب صوتُ الواجب الصولةَ الطبيعية، وعقب الحقُ الشهوةَ، رأى الإنسانُ -الذي لم ينظر غير نفسه حتى ذلك الحين- اضطراره إلى السير على مبادئ أخرى، وإلى مشاورة عقله قبل الإصغاء إلى أهوائه، وهو مع حرمانه نفسه في هذه الحال ينال منافع كثيرة من الطبيعة، ويبلغ من الكسب ما هو عظيم منها.»
ويُصنّف روسو بأنه بحر موسوعي شامل الاطلاع كثير العطاء في عدد من حقول الثقافة والمعرفة، فبجانب كونه مفكرًا سياسيًا، كان مُنظرًا عارفاً في مجالات عدّة، كالأخلاق، والفنون، والآداب، وخاصة النواحي التربوية التي يُعتبر عطاؤه فيها ثورة كبرى في هذا المجال؛ بالإضافة إلى تعمقه في علوم متعددة كعلم النبات مثلا.
وقد اختلفتْ وجهاتُ نظر الناس في روسو إلى درجة كبيرة من التفاوت، ففي الوقت الذي اعتبره البعض مجرد فيلسوف وكاتب ومحل ل سياسي، بالغ الكثيرون فاعتبروه قديسًا، فيما حكم عليه آخرون بالجنون، ووصفه البعض أيضا بأنه (نبي)، بينما قال عنه غيرهم أنه مرشد فكري من طراز خطير كبير..
وفي عام (1762) تقريبًا صدر له كتابان هما: (العقد الاجتماعي)، و (في التربية)، فأرادتْ السلطات الباريسية اعتقاله، فقرر الهرب السريع إلى سويسرا، ثم منها ذهب إلى إنكلترا كلاجئ؛ ولكنه في النهاية عاد إلى فرنسا، بعد أن سمحتْ له السلطات والظروف السياسية بالعودة، وقضى بقية أيامه فيها في وضع يصفه الكثيرون بالمضطرب.
والحقيقة أن الكثير من كتابات فيلسوفنا «روسو» تبرر هذه العظمة التي وصل إليها، ومن ذلك قوله الجميل مثلا: «ولم يَكد الناس يبدؤون بتقدير بعضهم بعضًا مبادلة، ولم تكد فكرة الاعتبار تتكون في نفوسهم، حتى زعم كلٌّ وجودَ حقٍ له في ذلك، وصار يتعذر إنكار ذلك على أحد من غير عقاب، ومن هنا نشأ أول واجبات الأدب حتى بين الهمج، ومن هنا صار كل خطأٍ إهانة؛ وذلك لأن المُهان كان يرى في الشر الذي ينشأ عن الإهانة ازدراءً لشخصه أشد إيلامًا من الشر نفسه. وهكذا إذ كان كلُّ واحدٍ يجازي على الازدراء المُوجّه إليه بنسبة ما يُقدّر، فإن الانتقامات أصبحتْ هائلة، وصار الناس قساة سفاحين، وهذه هي الدرجة التي انتهت إليها بالضبط معظم الشعوب الوحشية التي نعلم أمرها».
ومن ذلك أيضًا قوله البديع في كتابه الرائع (أصل التفاوت بين الناس): «وقد علِم - أي الإنسان - من التجربة، أن حبَّ الرفاهية هو الدافع الوحيد لأعمال البشر، فوَجد نفسه في حالٍ يميّز فيها الفرص النادرة، التي تجعله المصلحة المشتركة يعتمد فيها، كما يجب، على مساعدة أمثاله، والفرص التي هي أكثر ندرة أيضًا في حمل المزاحمة إياه على الحذر منهم كما يجب.. ففي الحال الأولى كان يتحد معهم ضمن قطيع، أو ضمن شركة مطلقة، نوعًا ما، لا تلزم أحدًا ولا تدوم أكثر من دوام الاحتياج الذي أدّى إلى تأليفها.. وفي الحال الثانية كان كلُّ واحد يبحث عن منافعه الخاصة، وذلك عن قسر؛ إذا ما أبصر نفسه قويًا بدرجة كافية، أو عن حيلة وحذق؛ إذا ما شعر بأنه الأضعف».
نتوقف هنا الآن، على أن نتناول أهمَّ مبادئ (الفلسفة الطبيعية) وتطبيقاتها التربوية، في الجزء القادم المكمّل لهذا الجزء، إن شاء الحكيم.
وائل القاسم - الرياض