إن المدينة الفاضلة لدى الفارابي هي كما يستنتج إغناتنكو هي: اجتماع لناس، يتمتعون بالمعرفة الدقيقة عن السعادة الحقة وسبيل تحصيلها ويعملون وفقا لهذه المعرفة.
ويرى الفارابي أن (المدينة) هي أقل ما يمكن من الاجتماعات البشرية التي يتحقق فيها الكمال والاكتفاء الذاتي، ولكنه يشبه المدينة الفاضلة بالجسد البشري ويرى أن أهم عضو فيه هو القلب يصلح بصلاحه البدن ويفسد بفساده البدن، ويؤكد إغناتنكو أن الفارابي لم يشترط في رئيس المدينة الفاضلة أن يكون مسلما، و أنه لم يتطرق إلى هذه المسألة إطلاقا...، سوى أنه يعدد صفات رئيس المدينة متأثراً بالفكر العربي الإسلامي في فقهه العام؛ فيشترط في رئيس المدينة أن يكون تام الأعضاء، جيد الفهم، جيد الحفظ، جيد الفطنة، حسن العبارة، محباً للتعليم والاستفادة، غير شره على الملذات الحسية، محبا للصدق ومبغضا للكذب، كريم النفس، مزدرياً للمال والغنى، محبا للعدل مبغضا للجور، قوى العزيمة، ويرى أن الخصال الفطرية لرئيس المدينة تكتمل بالخصال المكتسبة التي تنشأ بفعل التعلم ومع تجارب التقدم في العمر، والفارابي يرى أن رئيس المدينة قد لا يتوفر على بعض هذه الخصال، ولكن الشرط الرئيس الذي لا بد من وجوده هو أن يكون حكيماً أي عارفاً بالفلسفة الحقة، يقول الفارابي: «فمتى اتفق في وقت ما إن لم تكن الحكمة جزء الرياسة، وكانت فيها سائر الشرائط، بقيت المدينة الفاضلة بلا ملك... وكانت المدينة تعرض للهلاك»
إن اشتراط الفلسفة في رئيس المدينة الفاضلة، لا يمكن أن يراد منه أن يكون رئيس المدينة متخصصا في الفلسفة، ولكنه - فيما أرى - يكون في الحال التي يعي فيها أنه ينطلق من المنطلقات الفلسفية النقدية لبناء المدينة، ومعظم الباحثين يعلمون أن التقدم العلمي والحضاري والثورات العلمية لم تنشأ إلا بالانطلاق من ركائز فلسفية كبرى في النظر إلى الذات وإلى الآخر، ولذا يجب أن يكون رئيس المدينة مشاركاً في علوم عصره ملماً بالفلسفة، ولا يترك الفارابي الحالات الأخرى التي لا يوجد فيها رئيس مدينة تكتمل فيه الشروط، فيقترح نقل رئاسة المدينة إلى رئاسة جماعية، فإذا لم يمكن أن يتولى ذلك شخص واحد ولم توجد رئاسة جماعية يكون رئيس المدينة لدى الفارابي (ملك السنة) العارف بالسنن والشرائع المتقدمة وهو لا يختلف عن رئيس المدينة إلا بعدم توفر خصلة واحدة ولكنها مهمة للغاية هي الحكمة أي أنه ليس فيلسوفاً، فإذا لم يوجد ملك السنة ينتقل إلى إدارة جماعية تسمى رؤساء السنة...
وعوداً على بدء للبحث عن المدينة الفاضلة أو ما يشي بوظيفة ما يُسمى بمؤسسات المجتمع المدني، لا نكاد نجد عند إخوان الصفا الذي كانوا جماعة فلسفية أخلاقية كما يقول عمر فروخ، ولا عند ابن سينا تميزاً فلسفياً يضاهي ما هو موجود لدي الفارابي في التخطيط لهذا المدينة بشكل عام، ولكن النظرة التي يمكن أن تقرّب من نظرة المجتمع المدني هو ما قدّمه ابن باجة من دور إيجابي لمن يسميهم بالنوابت الذين يرون الآراء ويعلمون كيف يجب أن يكون عليه الاجتماع البشري الذي يؤدي إلى سعادة الجميع لأنهم هم الذين يقومون بالتدريج بتحويل المدن الناقصة إلى المدينة المثلى الكاملة، وهذه نظرة تقرب مما نسميه وظائف مؤسسات المجتمع المدني الحديثة، والغريب أن ابن باجة بإسناد هذا الدور الإيجابي للنوابت خالف بذلك الفارابي الذي رأى أنه يجب أن يستبعدوا من المدينة الفاضلة وأن يكونوا محط النظر لإصلاحهم أو معاقبتهم... بيد أن مصطلح النوابت لدى الفارابي يختلف في مفهومه عن مصطلح النوابت لدى ابن باجة، فهم لدى الفارابي طوائف عديدة منهم المتقنصون وهم الذين لهم أهداف لاتتطابق مع ما يدعونه من خطابات، ومنهم المحرفون الذي يتأولون الشرائع بما يوافق هواهم، ومنه المارقة الذين يخطئون في فهم الشرائع عن قصد، وبعضهم لهم مقصد صحيح في تطور المدينة ولكنهم يتخذون الوسائل غير الصائبة للوصول إليه... وفي المحصلة فإن هؤلاء القوم ضارون بالمدينة الفاضلة.
إذن فمقاربة المفهوم لدى ابن باجة كان أكثر وضوحاً ممن سبقه، في حين لا نكاد نجد صلة ما بين مفهوم المجتمع المدني أو وظائف المفهوم عند كثير من الفلاسفة ولكن ابن خلدون في نظرة واقعية صارخة يقف ضد كل الفلاسفة العرب الإسلاميين وضد المفكرين الدينيين بعامة فيرى أن العلماء من بين البشر أبعد عن السياسية ومذاهبها فهم مثاليون ويتناولون المجتمع تناولا مثاليا يهتم بالأمور الكلية ولا يأخذ في الحسبان خصوص الواقع، بل هم بعيدون عن الواقع حتى، فهل ذلك صحيح على إطلاقه؟
ونحن نعلم أن الفارابي وابن سينا وابن باجة وابن رشد وابن طفيل ممن مارسوا السياسية بشكل أو بآخر أوممن كانوا مقربين من السياسية، بل نحن نعلم علم اليقين أن حكام الدولة العباسية في عصرها الذهبي كانوا علماء وفلاسفة بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى العلم والفلسفة وإن لم يشاركوا في التأليف يستثنى من ذلك ابن المعتز الذي لديه مؤلفات معروفة.
ما ينقده ابن خلدون هو صنف من العلماء اعتزلوا الواقع ويرمون تطبيق ما هو مسطور في الكتب من مثاليات على الواقع وهذا لن يسبب إلا مشكلات عويصة ولعل منهم ابن سينا نفسه فقد تولى الوزارة وشغب عليه الجند وكادوا يقتلونه، ولو تتبعنا آراء ابن سينا في تدبير المدينة الفاضلة لوجدناها أضعف ما في هذا العالم الكبير فهي مجرد آراء فقهية محفوظة، وليس لديه تميز أو اهتمام مميز بهذا المجال.
ثم إن مفردة العلماء تحتاج إلى تحديد المراد بها تحديداً دقيقاً يأخذ في الحسبان مقصود ابن خلدون في عصره ؛ فالعلماء الذين هم ورثة الأنبياء من هم؟ هل هم الذين يحفظون نصوص الدين وينقلونها أم الذين يستنبطون منها أموراً فقهية أي خبراء قانون، أم الذين يستبطون منها أمور فلسفية عامة تكون ركيزة لكل تطور محتمل في المجال العام أم هم الذين يؤلون النصوص تأويلاً إيديولوجياً اقصائياً قام على فكرة خلافة دينية افترقت عليها المذاهب وتأويلاتها بعداً وقرباً عن الحق والواقع أم هم الذين يتمتعون بصفات الورع والعبادة أم هم أتباع مذهب فقهي معين، ثم كيف يقاس علمهم بالنسبة لغيرهم.
والسؤال الأدهي إذا لم يكن للعلماء، ليس بوصفهم التقني فهم مجرد فنيين عندئذ يجلبون لحل مشكلة ثم يوضعون جانباً، ولكن بوصفهم الحكمي الذي يضع التصورات والمفاهيم ويشارك في التطبيق والملاحظة على التطبيق والتغذية الراجعة للتطبيق كما يشارك في حل المشكلات فمن يمكنه أن يقوم بهذا الدور غيرهم؟
إن ابن رشد حين فسر المقصود بالعلماء في حديث « العلماء ورثة الأنبياء «بالفلاسفة كان أقرب إلى الصواب، ولكن أين هي الفلسفة بل ما دور الفلاسفة في المجتمع العربي الحديث، إننا عند النظر إلى مدى قرب الفلاسفة من دائرة صنع القرار قديما قد نجدهم في بعض الفترات المنيرة القصيرة في تأريخنا الكبير في مقدمة المسرح أما الآن فهم خارج المدينة أصلاً لا دور لهم إلا في معتزلهم العلمي وحديثهم ومنتجهم أشبه بحديث جانبي هامشي لا علاقة له بالخطاب أو أن ما تم هو تفريغ قوته الخطابية بمزيد من آليات تفريغ المعنى التي تستعمل الجهل والتجاهل، في طمس النور والمعرفة وفي تثبيت الخطاب المتخلف.
د. جمعان بن عبدالكريم - الباحة