سنتحدث في هذه الحلقة عن مصطلحين قديمين اندثرا، ولم ينتهيا، فقد أشرت من قبل إلى أن الكلمة لا تموت، لكنها تخمل ويقل استعمالها.
وهذان المصطلحان (الاعتذاريات والنقائض) لم يموتا، لكنهما خملا وقل استعمالها، بوجود مصطلحات غطت عليهما من حيث المسمى، وليس من حيث الفعل، مثل: طلب العفو، والتوسط لدى المخطأ عليه والسماح، وغيرهما من وسائل الصفح، فالاعتذار باق في الثقافات الإنسانية، سواء كان معلناً أو مضمراً، فلكل زمان ولكل مكان أدواته، لكن المفعول واحد.
ولنفصِّل القول في كل مصطلح بما نستطيع في هذه الحلقة.
فالاعتذار في اللغة قديم قدم الإنسان، ومختصره عندما يخطئ الإنسان، أو يتهم بالخطأ يقدم اعتذاره للمخطأ عليه، أو يشرح له السبب لإقناعه وتبرير موقفه بأنه لا يقصد إهانته أو أنه ليس مخطئاً. وقد خاضت فيها كتب التفاسير والشروح اللغوية كثيراً،وفعلها (اعتذر، يعتذر، اعتذاراً) ومصدرها (عُذر) وجمعها (أعذار ومعاذير) قال تعالى في سورة القيامة، في الآية الخامسة عشرة {بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ}، ويقال (اعتذر فلان من فلان، أو إلى فلان) أي قدم له العذر مبرراً للخطأ وعدم العودة لمثله، أو يبرر له أن تلك كانت وشاية لا صحة لها. واعتذر فلانٌ: صار ذا عذرٍ، واعتذر عن ذنبه، واعتذر عن فعله، أي تنصل واحتج لنفسه، والفصيح: اعتذر عن ذنبه، وليس من ذنبه، إلا في حالة الاعتذار للشخص نفسه وليس عما فعله المعتذر، اعتذر فلان من فلان عن فعله. وقد ورد في كتب اللغة والتفاسير أقوال كثيرة لكنها واضحةُ المعاني، متقاربة الدلالة، فمن أفصحها قول المعتذر: فعلت ولن أعود وهو دليل التوبة، كقولهم: وكل توبة عذر، وليس كل عذر توبة، قال تعالى في سورة التوبة{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ } (94) سورة التوبة، لأن الله تعالى عليم بالمنافقين، والاعتذار موجود في كل اللغات والثقافات الإنسانية، فهو مرتبط بين اثنين، أو من يمثل الجماعات، عندما يظهر الخطأ أو الاتهام والتحريض والوشاية ، أياً كان نوعها. وسنعرض لهذه الاعتذارات التي أصطلح عليها في الأدب العربي (الاعتذاريات) التي مصدرها (اعتذر، يعتذر، اعتذاراً) قال ، دعبِل الخزاعي:
تأن ولا تعجل بلومك صاحباً
لعل له عذراً وأنت تلوم
وقد سار الشطر الثاني لهذا البيت مثلاً يردده الناس في مجالسهم وخصوماتهم، وكان شيخ هذا الفن الذي ذاع صيته من خلاله وتفوق على غيره من المعتذرين (النابغَة الذبياني)، حيث كان سفيراً لقومه لدى الملوك والأمراء في زمانه (الغساسنة والمناذرة) على وجه التحديد، وهما أقوى مملكتين في ذلك الزمان، وسيكون لنا معه جولة في الحلقات القادمة، بإذن الله.
ويتعلق بهذا الموضوع عن بعد موضوع آخر،سمي بالنقائض، جمع نقيضة، وهو مأخوذ من (نقْض الحبل بعد فتله) يقترب منه حيناً في الانتصار للذات، فينقض الحجة بالحجة ويدمغ مزاعم الخصم،ازدهر في العصر الأموي، وبرع فيه أعلام خلد التاريخ ذكرَهم، مثل: الفرزدق، وجرير، والراعي النميري، والأخطل، وغيرهم. ويبتعد عنه في أحيان أخرى،مثل التذلل والخضوع وتقديم الأعذار.
والنقائض مصطلح قديم، قدم العربية، وهو مشتق من الفعل: نقض، ينقض، نقضاً، فهو ناقض، والمفعول: منقوض. ويقال: نَقض الأمر، أفسده وأبطله بعد إحكامه، كنقض المعاهدات، بمعنى: إبطالها، ونقض الحكم: إبطالُه وإلغاؤه. وقد كانت هناك منافرات ومناظرات حول هذا الموضوع أو ذاك، وغالباً ما تكون في الفخر، وهي نوع من الهجاء يدافع به الشاعر عن نفسه وقبيلته ضد ما قاله شاعر آخر لينقض ما قاله الأول ويفسده.وكانت الظروف الزمانية والمكانية عاملاً مهماً في ظهور هذا الفن القائم على ما ذكرنا من قبل، ولما ظهر الإسلام كانت الدعوة بحاجة إلى مثل هذا الفن مقارعة للأعداء، برد بضاعتهم إليهم، لكن بعيداً عن الفحش والإيذاء، فطلب الرسول صلى الله عليه وسلم من الشعراء في المدينة المنورة من المسلمين أن يردوا على شعراء قريش،وعلى رأسهم أخوه من الرضاعة (أبو سفيان بن الحارث) وقال صلى الله عليه وسلم اهجوا قريشاً فإنه عليهم أشد من الرشق بالنبال» فعرض الأمر على كعب بن مالك، فهجاهم، وعرضه على عبد الله بن رواحة، فهجاهم، فلم يشف ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فأرسل إلى حسان بن ثابت: فقال والذي بعثك بالحق لأفريتُهم بلساني فري الأديم ولأسلنّك منهم سلّ الشعرة من العجين، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: اهجهم وروح القُدُس معك يؤيِّدك ما نافحت عن الله ورسوله.
وكان حسان بن ثابت الأنصاري، رضي الله عنه، ومعه نفر من المسلمين لسانَ حال هذه الدعوة في وجه التيار المضاد لها، وكان أبو سفيان بن الحارث قد هجاء الرسول محمد صلى الله عليه وسلم فرد حسان بقول أفسد ما قاله أبو سفيان دون أن يمَس القبيلة لا من بعيد ولا من قريب، كقوله:
ألا أبلغ أبا سفيان عني
فأنت مجوف نخب هواء
هجوت محمداً فأجبت عنه
وعند الله في ذاك الجزاء
حتى إن قال:
وجبريل أمين الله فينا
وروح القدس ليس له كفاء
ولم يستطع الرد عليه. وكان بيت القصيد الذي أفحم به حسان أبا سفيان، قوله:
وجبريل أمين الله فينا
وروح القدس ليس له كِفاء
تقول بعض المصادر، إن أبا سفيان عندما سمع هذا البيت، قال: لعنك الله من أعمى، من أين آتي بمثل هذا الذي ليس لي رد عليه، ويعني (جبريل) عليه السلام. ولما ظهر الإسلام هذب من روح الشاعر وألفاظه، تأدباً مع القرآن الكريم، وتكريماً للرسول صلى الله عليه وسلم من بذاءة اللفظ. فأبو سفيان بن الحارث أسلم قبيل فتح مكة، وحسن إسلامه وتاب، رضي الله عنه.
وتطور هذا المصطلح في العصر الأموي بين الشعراء الفحول ومن سار معهم، بحيث ينظم الشاعر قصيدة في معنى ما، فيأتي الآخر وينقض كل ما قاله الأول فيها، ومن أعلامه: جرير والفرزدق والأخطل، والراعي النميري، وغيرهم. وما يزال الهجاء سائراً بين الشعراء والكتاب إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ولعل ما يدور في الساحات الشعرية العربية من مناظرات شعرية عامية، موروثاً من تلك العهود، لكنه باللهجات الشعبية العامية، بعد طغيانها على اللغة العربية الفصحى، كالحميني في اليمن، والزجل في بلاد الشام، والمحاورات في وسط الجزيرة العربية، والعتابة في العراق، وهي في النهاية منقوضات شعرية،تحكمت فيها اللهجات والتراث الثقافي الشعبي المغنى، وبقي تراثاً تتناقله الأجيال،أو بمعنى أدق: ما كان منه جيداً. وهي نوع من المبارزات الشعرية تظهر فيها موهبة الشاعر وحضوره الذهني في ساحات الرد على خصمه، ولا تعني كلمة الخصم هنا معناها القاموسي القاسي ،بمعنى الخصومة،لكنها انتصار للذات، ودخل فيها في الوقت الحاضر النثر في المقالات النقدية على أسس علمية، ومنها ما اصطلح عليه (المعارك الأدبية) وهي في مجملها خلافات نقدية، يُظهر فيها الناقد عيوب المنتج الأدبي،وقد يكون في كثير من الأحيان وجهة نظر محضة، وقد يكون مشاكسة صريحة، أو انتصاراً لفئة معينة, وكان النقد في بداية النهضة نوعاً من الانطباعية، نظراً للفروق الثقافية بين القديم والحديث، ثم تطور إلى نقد يقوم على أسس علمية تختلف عمَّا كانت النقائض تقوم عليه من نقض مبني على العنصر البشري، كالأصول والشخص نفسه، بل تجاوزه إلى العمل بصرف النظر عن الشخص المنتِج. ولعلنا في هذه الحلقات نغطي ما نستطيع تغطيتَه من نتاج الأدباء والشعراء، بداية من العصر الجاهلي إلى اليوم، وما جد من إبداعات لم تكن في التراث الجاهلي، مثل، الرواية والمسرحية والقصة القصيرة، من خلال أعلامها في الوطن العربي. وعندما نقول، لم يكن موجوداً، فإننا لا نعي القول القاطع النافي جملةً وتفصيلاً،بل نعني وجود البناء الفني لهذا النوع من الأدب، فالخبر السريع الموجز نوع من القصة القصيرة، واللغز كذلك، إذا وجد من يقولبه في بناء فني فسيصبح قصة قصيرة، والرواية موجودة لكنها سردية متواصلة، جاء كتابها فصاغوها في قالب روائي حديث،وكذلك بقية الفنون القولية. والاعتذار قديم جديد في الفن الأدبي، وهو تقديم المبررات للمعتَذر منه وشرح وجهة النظر لا التبس عليه من خطأ وقع أو ظن المخطأ عليه أنه وقع لسوء الفهم، فأما يقبل أو يرفض.
ونختم هذه الحلقة ببيان ما يجب على المعتذر تقديمه للمعتَذر إليه، فيقدم المعتذر ما يناسب مقام المعتذر إليه ليعينه على إقناعه بأسلوب غاية في الإقناع بقبول العذر، كالشهود واليمين، وكلها حلول نهائية في إبلاغ الحجة.
أما ما يتعلق بالنقض فله شروط قريبة من شروط الاعتذار، إلا أن الناقض لا يكون في درجة أقل من درجة المنقوض كلامه،بل العكس يقوم بإفساد ما ذكره الأول، فهو ليس في مجال العفو والتسامح، بل في ميدان الرهان.
- الرياض