عندما يكون كاتب الرواية أو القصة سينمائيا فإنَّ رواياته وقصصه تكون أقرب إلى السيناريو منها إلى الرواية، أو هي رواية في صيغة سيناريو أو سيناريو في صيغة رواية. وهذه روايات وقصص أغلب السينمائيين من هواة كتابة القصة القصيرة أو الرواية. هناك بعض الروائيين لديهم ميول درامية وسينمائية وهم متأثرون بصيغة الفيلم السينمائي فلا يذهبون بعيدا في الوصف وتجسيد دواخل الشخصيات، إنما الذهاب بعيداً في المشاهد ذات البعد الوصفي والتحليلي. فيأخذ الحدث مداه ويعكس الحالات النفسية للشخصيات المكتوبة ويقترب من السينما.
مثلا غسان كنفاني أغلب رواياته وقصصه تصلح للسينما ولا تتعب السينارست فهي شبه جاهزة، ولذلك فإنَّ ثلاثا من رواياته تحولت إلى أفلام وهي: رجال في الشمس باسم «المخدوعون»، وما تبقى لكم وظهرت باسم «السكين»، و»عائد إلى حيفا» وظهرت بنفس الاسم.
أعمال الروائي «إسماعيل فهد إسماعيل» أغلبها تصلح للسينما سواء رواياته أو قصصه القصيرة، فهي تملك مقومات الرواية وتشهي على الإنتاج سينمائيا.
أعمال نجيب محفوظ كلها بسبب زخم الأحداث وصراع الشخصيات وتنوع الأمكنة تحولت أغلبها إلى أفلام سينمائية، حتى طلب منه مرة المخرج صلاح أبو سيف صياغة إحدى رواياته في سيناريو سينمائي!
بين يدي الآن قصص قصيرة تحمل عنوان «العمر الجميل» كتبها السينمائي والناقد «عدنان مدانات» تضم عشر قصص متنوعة الأمكنة والشخصيات، ولكنه عبر رصده لها وكينونته ضمنها فهو جزء من ذلك الواقع اليومي الذي يمر به ويختزن في وجدانه وفجأة تحصل الولادة، ولادة القصص القصيرة. هذه القصص تبدو وكأنها حكايات سهلة يرويها الكاتب كمشاهد راصد للحياة اليومية في استراحاته في منزله أو وهو في الطريق إلى العمل وما يصادفه من صور إِنسانية يراها ويرصدها بعين سينمائية تجسد الصوت وتجعلك تستمع إليه وإلى مؤثرات الحياة كاملة فتمتزج بالصورة وتراها وكأنها على شاشة السينما تحكى وتروى وتشاهد، ولكن التأمل فيها يكشف عذوبة الرصد وطريقة التعبير عنه.
«في السابعة والنصف صباحاً أخرج من المنزل. أما أذناي اللتان لا تزالان تسمعان وترددان صدى الزمامير ونداءات باعة الكعك فتكادان تنطرشان، إِذْ يباغتهما صوت مدو ينبعث من مكبر الصوت ويطلق ما يشبه أصوات الاستغاثة.
تقترب الشاحنة الصَّغيرة ذات مكبر الصوت ويقترب ضجيجها. تلتقط أذناي المشوشتان النداءات المتلاحقة مميزة كلماتها بصعوبة: مساحيق الغسيل الثلاثة بدينار. أدوات... الثلاثة بدينار. معجون الحلاقة.. الثلاثة بدينار.. زيت زيتون.. علاقات.. مكانس .. يا بلاش.. الثلاثة بدينار.
ويكرر الصدى داخل رأسي .. الثلاثة بدينار الثلاثة بدينار الثلاثة بدينار.
أقف على الرصيف وأنتظر زوال الإعصار الصوتي. تقف الشاحنة أمامي. أحدق في وجه السائق الذاهل وألحظ النظرات الزائغة لمساعده الصارخ في مكبر الصوت.. يرياني فيتوقف النداء. يتطلعان نحوي متسائلين ينتظران أن أشتري. وأنا لا اشتري. أقترب منهما ولا أشتري... «
بهذه القدرة يرصد «مدانات» الناس والأمكنة وهواة تربية الكلاب وصياح الديكة والأطفال وتطور الحياة الإِنسانية والزمن ومتغيراته والإِنسان الراصد ضمنه بوعي ورهافة حس. ففي قصة «كيف تعارف الجيران في ضواحي عمان» فإنه عبر المتغيرات الإِنسانية ينتبه إلى المدينة التي عرفها وعاشها أنها تتسع لتلتحق بالمدن الأخرى حتى تكاد تتحول إلى مدينة واحدة في تواصلها مع المدن التي حولها، مدينة «صويلح السلط والحيص ووادي السير والرصيفة والزرقاء، وهي مدن كان الذهاب إليها في الماضي يُعدُّ سفراً ومشقة رحيل وحتى غربة. فيتحدث «مدانات» عن والدته التي بلغت التسعين وهي تتحدث عن رحلتها من عمان إلى السلط وكأنها تتحدث عن عالم بعيد لعالم جديد.
لا يكتفي السينمائي مدانات برصد الحياة في الشارع وفي منزله، بل هو يسخر وبطريقة قصصية ممتعة من الأغاني التي يضع الشباب سماعة الاذن ويستمعون إليها ونحن لا نسمع ماذا تقول المغنية، ففي قصة «أنا ومي التي تحب الأغاني»، وكان قد التقط أغنية في الشارع وفي الراديو ولكنه لم يتمكن من التقاط الكلمات ومعانيها فيسأل مي التي تحب الأغاني وتقول له بالضبط كما سمعها هو، ولكنه غير مقتنع بالمعنى وتروح مي تسأل زميلاتها وهن يؤكدن ذات الكلمات.. الكل يطرب لها والكل يبث الأغاني ولا أحد يعرف ماذا تقول المطربة.. فقط عندما تظهر على شاشة التلفاز وهم يعرضونها في المحال التجارية وعلى أكثر من شاشة وبملابسها اللماعة وهو تهتز أمام الكاميرات وبيدها الميكروفون وكلهم يعتقدون أنها ذات الكلمات التي سمعها القاص .. ولكنها لم تكن كذلك. المطلوب أن المغنية تهتز أمام عدسات الكاميرات وسوى ذلك لا يعني شيئا.
من خلال عشر قصص قصيرة «واقعة من تاريخ ناظر يهرم وعبيد الله ومشاهد من حياة إشارة مرور، وبريد التعارف، ومجرد كابوس، والخائن، وحدث مرة في بيروت « تستطيع أن ترى عمان وترى ناسها وترى ما حولها وترى ما يكشف اقتصادها وحياة الناس اليومية.. تراها من خلال عيني «عدنان مدانات» ولكن بعدسات سينمائية متباينة الأحجام والكفاءة والسعة وعمق الميدان!
- هولندا