-1-
عانى النص الأدبي في جميع الثقافات من قسوة التلقي وعنف التأويل، وترتب على هذا الوضع ما سجلته الأيام من محاكمات مادية ومعنوية، أسهمت بوجهها الديني أو السياسي أو الاجتماعي في تقييد عملية الإبداع، وولادة نصوص أدبية مؤجّلة (غير منشورة)، أو ناقصة، أو مترعة بالمخارج والاستدراكات التي تربك النص الأدبي، وتعلّق روحه المسكونة بالبحث الجاد!
وقد أحيت قضية الحكم على الشاعر أشرف فياض الكثير من الأسئلة المهمة حول حرية التعبير بوجه عام والإبداع بوجه خاص، واستدعت الوقائعَ المماثلة وما أثير حولها من أسئلة عن موقف القانون من النص الأدبي، واطلعتُ - في هذا السياق - على عدد مما كتب حول هذه القضية في الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي، وبدا لي أنها واقعة ثقافية مهمة، تأخذ المتابع إلى أسئلة لا بدّ من مواجهتها بشجاعة .
لذلك لا يجوز أن ينظر أحدٌ إلى هذا التفاعل على أنه تدخّل في عمل القضاء، أو مناصرة لتيار على حساب آخر، أو تشكيك في القضاة، بل إنه - من وجهة نظري - تفاعل مع أسئلة عميقة، لا تفتأ تعيد نفسها إلى الصفّ الأول كلما حاولنا تأخيرها أو إخفاءها، أسئلة عن الكلمة والمعرفة والحياة والبقاء .. والموت أن تموت الأسئلة!
-2-
في البداية لا يجرؤ أحدٌ على استثناء النصّ الأدبي من حكم القانون، فالأدب كلامٌ من كلام البشر، له ما له وعليه ما عليه، لكن يجب أن يُستحضر دائماً أنّ للنص الأدبي طبيعة خاصة، تفرض أن يكون التعامل معه خاصاً، وقد تحدث النقاد قديماً وحديثاً وبجميع اللغات عن سمات وخصائص النصّ الأدبي، التي تتيح للإنسان مساحة للتعبير لا يجدها في غيره .
وكما أنّ إنشاء الأدب لا يستطيعه كلّ أحد فإنّ قراءته أيضاً لا يستطيعها كلّ أحد، أو بصيغة أخرى لا يستطيع أحدٌ القطع بمعنى من المعاني على أنه المعنى الذي يرمي إليه هذا النصّ أو ذاك .
من هنا التفت تراثنا العربي (وإن بشكل محدود) إلى مساهمة المتلقي في إنتاج معنى النصّ، فتحدث عن التبيّن مع البيان، والتفهم مع الإفهام، وأصغى عدد من الشعراء إلى المعاني التي تولد لدى المتلقي فتقصر عن معناهم أو تتجاوزه، ويمكن أن أستشهد هنا بقول المتنبي عن ابن جني: «إنه يقول ما أردتُ وما لم أرد»، وفي العصر الحديث عُرِضَت على نجيب محفوظ قراءة لإحدى رواياته، ثم سُئل: هل هذا ما قصدتَ؟ فأجاب: «لا، لكنها تعجبني»، وبين هذين الموقفين مواقف لا حد لها تبين أهمية القارئ في إثراء النصّ الأدبي بالمعاني، التي تتجاوز معنى الأديب لكنها تظل في حدود النص وإشاراته .
وقد تأصلت هذه التصورات في العصر الحديث في نظريات متخصصة قدمت أنماطاً متعدّدة من القراء من مثل: القارئ الأعلى عند ريفاتير (Riffaterre.M)، والقارئ المخبر عند فيش (S. Fish)، والقارئ المقصود عند وولف (E.Wolff)، والقارئ الضمني عند إيزر (W.Iser)، والقارئ النموذجي عند إيكو (U.Eco) ..
ورغم تباين الصور والأنشطة بين هذه الأنماط فإنّ ثمة اتفاقاً على مستوى يجب أن يتوفر فيها، حاول الغذامي أن يختصره - في كتابه «الخطيئة والتكفير» تحت مفهوم القارئ الصحيح – في ثلاثة مكوّنات رئيسة، هي:
- امتلاك حصيلة ثقافية واجتماعية ونفسية
- والتمكّن من السياق الأدبي لجنس النصّ
- والقدرة على فهم حركة الإشارات ونحوية بنائها
وقد اختلف النقاد والمنظرون حول حدود نشاط القارئ في عمليات التأويل فذهب أكثر دعاة استجابة القارئ ونظرية الاستقبال إلى إطلاقه (كما يشير دليل الناقد)، في حين ذهب إيكو إلى تقييده بمبدأ صحة التأويل. وفي هذا السياق يشير حميد لحمداني في «القراءة وتوليد الدلالة» إلى كتابه «حدود التأويل»، وإلى ما كتبه تحت عنوان: «ضدّ القراءة الخاطئة»؛ وكلاهما يعبّر عن أنّ القراءة الصحيحة لديه هي القراءة التي تستند إلى مؤشرات نصية منتقاة دون أن تتعارض مع مؤشرات نصية أخرى مهملة، وهذا المبدأ بالإضافة إلى تأكيده أهمية النصّ أو دلالته المرجعية يؤكد أهمية أن يكون القارئ مرتبطاً به، بحيث يكون جزءًا رئيساً في كل دلالة جديدة .
وإذا كان ما سبق يضع الاحتراز في طريق التعامل العادي مع النص، فإنّ الاحتراز يجب أن يكون أكبر وأوسع في التعامل مع الأديب، خاصة حين يرتبط الأمر بالحكم عليه بعقوبة معينة، فكيف إذا كانت هذه العقوبة عقوبة الإعدام !
ويكفي أن أستشهد هنا بخبر الزبرقان بن بدر الذي بلغه هجاء الحطيئة فرفع أمره إلى الخليفة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فلما سمع عمر البيتَ لم يجد فيه ما وجد، فاستدعى الشاعر حسان بن ثابت وسأله عن معنى البيت، فقال حسان: لم يهجه ولكن سلح عليه .
ونلحظ في هذا الخبر ثلاث إشارات مهمة :
1- أنّ الزبرقان بن بدر يرى أنه قد هُجي وهو شاعر ومتألق في بيئته بالشعر ووجوه الكرم.
2- أنّ عمر بن الخطاب (القاضي في هذا المشهد) لم يجد في الأبيات معنى من مع اني الهجاء، لكنه لم يكتف برأيه (رغم كونه واحداً من رواة الشعر ومتذوقيه) فاستعان بأبرز الشعراء في ذلك العصر .
3- أن حسان بن ثابت أبدى رأياً مختلفاً نسبياً عما رآه عمر والزبرقان .
-3-
وفي هذا الخبر تأكيدٌ لتأثّر المعنى بطبيعة القارئ وتكوينه، وهو ما قرّره النقد الحديث بتفريقه بين قصدية الفعل وقصدية التبليغ، فالأولى في بطن الشاعر (كما في التعبير الشائع) والثانية مرتبطة بالقارئ، تتسع باتساعه وتضيق بضيقه، وليس ثمة قارئ واحد، بل قراء، وهذا ما دفع عمر إلى الاستعانة بحسان؛ وهذه الاستعانة تنفي أن يكون القارئ الواحد ذا معنى نهائي، فإذا كان النص وهو النص لا يحتكر المعنى فإنه لا يجوز لأحد أن يدّعي احتكاره، وعليه فلكل قارئ معناه الذي يعبر عنه أكثر مما يعبر عن النص، و لا فرق هنا بين المتخصص في دراسة الشعر والقارئ العادي!
إنّ الإشارات السابقة تؤكد أهمية أن يستحضر القاضي طبيعة النص الأدبي حين التعامل معه، وطبيعة القراءة التي تستهدفه، وأن يستعين بالذين عرف عنهم التعمّق في قراءة النص الأدبي (الحديث تحديداً) لا للحكم عليه بل لفهمه، أو البحث عن شبكة المعاني التي يمكن أن يحيل إليها!
كما يتعيّن علينا جميعاً أيضاً أن نضيء النصّ الأدبي لنستضيء به، وأن ندفع معانيه التي تحتمل الإدانة بمعانيه التي تحتمل البراءة، وأن نعي جيداً أنّ التأويل لا يكون نافذاً ما دام في النصّ مؤشرات تتعارض معه، وأنّ النص لا يمكن أن يستقلّ عن النصوص الأخرى التي تمثّل التجربة الأدبية ومنطلقاتها الفكرية والجمالية .
وفي تفعيل هذا الوعي حماية لمؤسسة القضاء، وبراءة للذمة، ودرء للحد، و ورحمة الله وسعت كلّ شيء!
خالد الرفاعي - الرياض