في مذكراته [خارج المكان] يروي المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد حكايات شتى عن اغترابه المكاني والزماني متعدد الوجهات. بدأ اغتراب إدوارد سعيد في نمط اللغة التي يقول عنها: «لقد اختبرت دوماً ذلك الشعور بالغربة المزدوجة، فلا أنا تمكنت كلياً من السيطرة على حياتي العربية في اللغة الإنجليزية، ولا أنا كلياً حققت في العربية ما قد توصلت إلى تحقيقه في الإنجليزية. هكذا طغى على كتاباتي كم من الانزياحات والتغايرات والضياع والتشوه».
وفيما تناوله إدوارد سعيد تفسيرات واضحة لتلك التناقضات التي تحملها اللغة، بما هي هوية، وكذلك الشعور بالانتماء الذي تحدى كينونته إدوارد سعيد في شبابه لتأكيده فيما بعد؛ إذ ذكر ذلك في مقدمة كتابه [خارج المكان] قائلاً: «نما شعور متزايد بأنه إذا كنت أشعر بوجود هوة من سوء التفاهم تفصل بين عالمي الاثنين: عالم بيئتي الأصلية وعالم تربيتي، فإن مهمة تجسير تلك الهوة إنما تقع عليّ وحدي دون سواي؛ فلم يكن لي من خيار غير السعي إلى هويتي العربية وتمثلها تمثلاً على الرغم من المحاولات الحثيثة التي بُذلت لإقناعي بالتخلي عنها فترة تربيتي (وبواسطة أهلي، وإن يكن بدرجة أقل). بعبارة أخرى كان علي أن أعيد توجيه حياتي لتسلك حركة دائرية، تعيدني إلى نقطة البداية، مع أني كنت قد بلغت نهاية الثلاثين من عمري اخترت أن أستعيد هويتي العربية، ولكنني عربي لا يتلاءم تاريخه تماماً مع تقدمه في العمر».
وفي تقديمه لـ[خارج المكان] بيّن إدوارد سعيد أن: «هذا الكتاب هو سجل لعالم مفقود أو منسي. منذ عدة سنوات تلقيت تشخيصاً طبياً بدا مبرماً؛ فشعرت بأهمية أن أخلّف سيرة ذاتية عن حياتي في العالم العربي حيث وُلدت وأمضيت سنواتي التكوينية، كما في الولايات المتحدة حيث ارتدت المدرسة والكلية والجامعة. العديد من الأمكنة والأشخاص التي أستذكرها هنا لم تعد موجودة، على الرغم من أني أندهش باستمرار لاكتشافي إلى أي مدى أستبطنها، وغالباً بأدق تفاصيلها بل بتشخيصاتها المروعة.. غير أن الدافع الرئيسي لكتابة هذه المذكرات هو طبعاً حاجتي إلى أن أجسّر المسافة في الزمان والمكان، بين حياتي اليوم وحياتي بالأمس. أرغب فقط في تسجيل ذلك بما هو واقع بدهي دون أن أعالجه أو أناقشه».
لقد كانت تلك الحياة غير المستقرة، التي عاشها إدوارد سعيد في مراحل عمره، حياة قلقة في علاقتها بمكان، أشبه بالمنفى. السفر الدائم والانتقال من مكان إلى آخر بعيداً عن مسقط رأسه، ومن ثم تكوينه قيماً جديدة، ومناخات مغايرة. فألقى ذلك كله ذكريات متنوعة، وأحداثاً وأشخاصاً وثقافات عدة، أوجز ذلك إدوارد سعيد قائلاً:
«وقع خطأ في الطريقة التي تم بها اختراعي وتركيبي في عالم والدي وشقيقاتي الأربع. فخلال القسط الأوفر من حياتي المبكرة لم أستطع أن أتبين ما إذا كان ذلك ناجماً عن خطئي المستمر في تمثيل دوري، أم عن عطب كبير في كياني ذاته. وقد تصرفت أحياناً تجاه الأمر بمعاندة وفخر. وأحياناً أخرى وجدت نفسي كائناً يكاد يكون عديم الشخصية وخجولاً ومتردداً وفاقداً للإرادة، غير أن الغالب كان شعوري الدائم أني في غير مكاني».
وفي آخر كتابه أشار إدوارد سعيد إلى تأثير ذلك القلق الحاصل له بعبارة موجزة قائلاً: «والواقع أني تعلمت، وحياتي مليئة إلى ذلك الحد بتنافر الأصوات، أن أؤثر ألا أكون سوياً تماماً، وأن أظل في غير مكاني».
تلك الأفكار المتقدمة التي عبّر عنها إدوارد سعيد حول الآخر العربي تصف غربة المثقف العربي التي يكابد وحشتها في تفاصيل وتجليات ما زال يعانيها أينما حل، وفي أية ثقافة وُجد.
هدى الدغفق - الرياض