ثالثا: الآليات
اتضح مما سبق أن آليات التطور متغيرة، وتفعل مفعولها في الواقع العملي عن طريق الوعي، وأن مرحلتنا الانتقالية الحالية تشهد أولوية الصراع الشعوبي على الطبقي، ولكن هل يوجد صراع بعد العولمة؟ أي بعد تشكل مجتمع بشري واحد؟
إذا انتفت موجبات الصراع الطبقي والشعوبي، وأصبح البشر عناصر لمجتمع واحد، فهذا لا يعني أبداً أن التطور سيتوقف، إنما سيندلع صراع آخر وبآليات أخرى، فما الذي سوف ينتهي إذن؟ وكيف تنشأ آليات جديدة ومتى؟
للإجابة عن هذه الأسئلة لا بد من إلقاء نظرة على منشأ وتطور الصراع وآلياته في الطبيعة والمجتمع.
لن أتناول صراع المتناقضات في الطبيعة كلها، إنما جانب واحد منه - وهو صراع الكائنات الحية الوجودي مع الطبيعة.
لقد أثبت داروين (1809 - 1882م) أن منشأ الكائنات الحية هو منشأ مشترك وأن الصراع من أجل البقاء هو سبب تطورها وتنوعها.
الصراع من أجل البقاء معناه الصراع مع الطبيعة بإيجابها وسلبها، أي أن قدرات الكائنات الحيّة للحصول على الغذاء وحماية نفسها كي لا تكون غذاء هي ذاتها وتكاثرها للاستمرار بالوجود، هذه القدرات تنمو ولا تبقى على ذات المستوى.
الكائنات الحية لم تستطع السيطرة على الطبيعة إلا بالإِنسان. لذلك يقال في الفلسفة (الطبيعة وعت نفسها بالإِنسان).
إذن ما بناه الإِنسان من تكوين اجتماعي وحضارة سببه الوعي الذي ميزه عن الكائنات الأخرى، لذلك اعتقد الإِنسان في بداياته أن المنجز العظيم الذي ميزه عن الكائنات الحية الأخرى والذي اسمه الوعي هو منشأ كل شيء.
إذن المجتمع الإِنساني المختلف كلياً عن القطعان أو الأسراب أو تجمعات الحشرات أو الكائنات الأخرى هو منجز للوعي، والصراع الذي يجري بينه وبين الطبيعة أو الصراع داخل المجتمع نفسه هو صراع واعٍ.
الإِنسان تجاوز الصراع العفوي إلى الصراع الواعي، وأول مظهر للصراع الواعي هو تكوين المجتمع، ثم انبثاق آليات واعية لتطور ذلك المجتمع كالصراع الطبقي والصراع الشعوبي والصراع بين الحداثة والتراثوية والصراع بين مدمري الطبيعة والداعين للحفاظ عليها (تيار الخضر) وما شابه ذلك.
آليات الصراع متعددة وكلها فاعلة في مرحلتنا الانتقالية هذه، وتوجد آلية تتصدر الصراع ويكون دور الآليات الأخرى روافد لها، كما أن الآلية المتصدرة ليست دائمة الصدارة، ويوجد تبادل أدوار فيما بينها.
لقد انبثق الصراع الشعوبي بعد الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918م) وهيمن الاستعمار على مقدرات شعوب الدول النامية، وكان الصراع الطبقي هو المتصدر، والاتحاد السوفيتي السابق هو آخر إفرازات تلك الصدارة، ولكن الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945م) أفرزت قطباً مهيمناً على مقدرات الكرة الأرضية وقطباً آخر يناهض تلك الهيمنة، فتراجع الصراع الطبقي وتقدم الصراع الشعوبي أو الكوني ليحتل الصدارة.
انهيار المنظومة الاشتراكية وتحول الحرب العالمية (الثالثة) من (باردة) إلى ساخنة، تدور رحاها على أراضي دول الشرق الأوسط النامية بالدرجة الأولى، خصوصاً سوريا هو تأكيد لصدارة الصراع الشعوبي وتقهقر الصراع الطبقي.
في ظل العولمة لن ينته الاستغلال الشعوبي والطبقي مباشرةً، وستظل آليات التطور الحالية فاعلة، وتنبثق آليات جديدة، وعلينا نحن استنباط أي آلية من آليات التطور ستخبو وأيها ستحتل الصدارة حسب المعطيات التاريخية والحالية.
إبان مرحلة ما قبل الحضارة كان الصراع مع الطبيعة يتطلّب إحلال الحديث مكان القديم من أجل تطور المجتمع وليس شكل الاستغلال أو تنامي الثروة، ولم يكن هناك انقسام إلى طبقات. وإذا انتهى الاستغلال الطبقي والشعوبي الحالي فسوف لن نعود إلى آلية التطور الابتدائية تلك، إنما سيتصدر الصراع بين الحداثة والتراثوية (العودة إلى الوراء) المشهد الكوني، أما ما هي الآليات الجديدة أو الرافدة لها فذلك يمكن استنتاجه من الصراع العنيف الجاري في المؤسسات الدولية.
رابعا: الوعي
العلاقات بين عناصر المجتمع الإِنساني قائمة على الوعي، وهذا يعني ان المجتمع الإِنساني هو نتاج الوعي، وهو مختلف عن القطيع أو السرب أو تجمعات الحشرات لأنه تجمع واعٍ، والقوانين الطبيعية اللاواعية لا يمكنها أن تتجسد فيه إلا بالوعي.
كل التحولات في التاريخ كانت نتيجة لتراكم التجربة وتنامي الوعي وهي مستمرة كذلك، ولكن الإِنسان الذي وضع بصمته الواعية على كل شيء في الطبيعة لم يستطع حتى يومنا هذا وضع تلك البصمة بالكامل على علاقات الإنتاج.
لماذا لم يستطع الوعي الإِنساني السيطرة الكاملة على علاقات الإنتاج على الرغم من أنه سيطر على كل شيء في الطبيعة تقريباً؟ فالإِنسان يطير أفضل من الطيور ويغوص أفضل من الأسماك ويتحرك على اليابسة بالسرعة والمرونة التي يقررها ويتواصل بين عناصره بأجزاء الثانية. ذلك لأن الوعي صفة إِنسانية وبالتالي ليست محايدة.
يوجد في المجتمع الإِنساني وعيان متصارعان، وعي من يملك ولا ينتج ويحاول إبقاء العلاقات الاجتماعية خارج سيطرة الوعي، ووعي من ينتج ولا يملك وصاحب المصلحة في السيطرة الكاملة للوعي على علاقات الإنتاج.
الوعي الإِنساني الذي أنشأ المجتمع ونقله من حالة إلى أخرى عبر التاريخ من أجل تراكم الثروة والتطور المستمر، عملت ثلة من المتنفذين فيه على الحيلولة دون سيطرة الوعي بالكامل على المسار اللاحق لذلك التطور.
بعد كل تحول تاريخي واستتباب الأمر للمالكين الجدد يقلبون القيم الثورية رأساً على عقب بالترغيب والترهيب، ثم يختلقون أكاذيب يسمونها شعارات كالليبرالية الجديدة والديمقراطية وحقوق الإِنسان وزمن ما بعد الحداثة، كل ذلك من أجل الحيلولة دون استكمال التطور الواعي ومحاولة إعاقته.
أما بعد تحول الصين إلى الاقتصاد اللارأسمالي (الواعي) وإثباتها المنقطع النظير أنه الاقتصاد الأكثر فاعلية في زيادة الثروة بدون أزمات دورية، وهو البديل الذي لا مفر منه للنظام الرأسمالي القائم، حاولت الحكومة الأمريكية بعد تفاقم أزمتها الأخيرة تأميم 30 في المئة من أسهم البنوك للسيطرة (الواعية) على السوق التي تسمى (حرّة).
لم تنجح الحكومة الأمريكية في ذلك الإجراء الواعي لأنّها مجرّد موظفة لدى المافيا الرأسمالية التي تستخدم كل ما تفتقت ذهنية المتسلطين عنه عبر التاريخ، بالإضافة إلى ما ابتدعته هي من إرهاب يطحن البشر والحجر والشجر لمنع التحام الوعي بالممارسة الاقتصادية، التي ستؤدي إلى إزالة الاستغلال.
إخفاق الحكومة الأمريكية في ذلك الإجراء لا يعني أنها لن تعيد الكرّة، ليس لأنّها تريد تحقيق المصلحة الشعبية، إنما تريد إنقاذ النظام الذي لا أفق له.
إذن تحاول المافيا الرأسمالية عابرة القارّات بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية منع التلاحم بين الوعي والنشاط الإِنساني في العالم أجمع وإيقاف التطور، أي أنها تريد (إدخال الفيل في خرم إبرة).
.. يتبع
د. عادل العلي - الرياض