الفصل الثاني: حوار عن «الأصولية» مع المفكر الهولندي يوهانس يانسن
(ماير): هل تعتبر وصف بعض الجماعات المتشددة بأنها (جهادية) بأنه صحيح وكافٍ؟
(يانسن): بالطبع، إنه أمر مؤسف، ولكن قد يكون ملائم جدا من ناحية التصنيف. فليس سرا أن هناك عددا كبيرا من المجموعات الصغيرة في العالم الإسلامي التي تعتبر نفسها (جهادية) وتريد القتال لأجل الإسلام، وتريد محاربة الغرب.
(ماير): لقد كتبتَ أن قتلة السادات لم يعملوا أي استعدادات لإقامة الدولة الإسلامية المنشودة بعد عملية الاغتيال، وأن كتاب الفريضة الغائبة يدعم هذا النهج المتواكل بأن الله سيتولى أمر ما سيتبع أي أن الفعل الذي سيتخذونه سيؤدي تلقائيا إلى إقامة الدولة الإسلامية. وكشخص مطلع إلى حد ما على الحركات (الألفية)(*) في مختلف الأديان ، فإن هذا يبدو لي وكأنه مؤشر على حالة ذهنية (ألفية) أي أن القيامة آتية قريبا، والعمل العنيف سيساهم في تسريع العبور إلى العالم الجديد. ألا تعتبر الناس الذين عملوا بما في كتاب الفريضة الغائبة كألفيين، على الأقل إلى حد ما؟
(يانسن): بالتأكيد. ولكن عندما كنت أعمل على كتاب الفريضة الغائبة، لم أكن ملما بصورة كافية عن البحوث حول الفكر الألفي، وهذا مؤسف للغاية من ناحية التحليل لأنه فاتتني بعض النقاط الهامة. ففي (الفريضة الغائبة) يؤكد فرج أنه إذا تم تطبيق الشريعة الإسلامية، فسيكون الحصاد الزراعي أفضل، وهو حلم ألفي نموذجي، وكذلك زعمه بأن الحاجات المادية للناس سوف تتوفر تلقائيا عند تطبيق شريعة الله، وعندما ينتشر ملكوت الله.
(ماير): وإلى أي مدى ترى ملامح ألفية فى بعض الحركات الإسلامية المتشددة؟ إذا زرت أحد المواقع على النت التي تدعم ابن لادن، على سبيل المثال، فستجد في بعض الأحيان نصوصا تشير لاقتراب نهاية الزمان وقيام الساعة. هل يمكن أن نصف هذه المجموعات بأنها ألفية؟
(يانسن): لست متأكدا من ذلك. ولكن هل يحتاج هذا لتفسير؟! إنها ظاهر مقلقة بما فيه الكفاية كما هي وبدون هذا الوصف. لقد قرأت وأعدت قراءة تصريحات ابن لادن نفسه: أرى قليل جدا من الألفية في تلك التصريحات. يمكن أن توجد بين أتباعه. وبالطبع، أي مجموعة من الناس تُستبعد من السلطة قد تصبح ألفية.
(ماير): يوصف الجهاد في كتاب فرج بأنه ليس فرض كفاية بل فرض عين. ونجد نفس المقاربة في كتاب عبد الله عزام (الحق بالقافلة)، وكذلك في أماكن أخرى من الأدبيات الجهادية المعاصرة. التمييز بين فرض الكفاية وفرض العين أمر مفصلي في الإسلام. هل يمكن أن تشرح ذلك بصورة عامة، ولكن أيضا ماذا يعني على وجه التحديد في سياق كتاب الفريضة الغائبة والناس الذين يعملون به؟
(يانسن): في الشريعة الإسلامية الكلاسيكية العالية ولأسباب عملية، يقوم بفرض الكفاية بعض الأفراد نيابة عن كافة المجتمع. على سبيل المثال، صلاة الجمعة هي فرض كفاية، وإقامة الخلافة أيضا فرض كفاية وليست فرض عين. وللمشاركة في تنفيذ فرض الكفاية، يجب أن تحصل على موافقة من والديك والأسرة: وخصوصا عندما تكون صغيرا في السن فيكون إذن والديك ضروري. ولكن للقيام بفرض عين، لا تحتاج إلى إذن من والديك. وفي الفريضة الغائبة هناك الكثير من الاهتمام بهذا الجانب. ومن الواضح أنهم يريدون إقناع الشباب أنهم لا يحتاجون إلى إذن والديهم من أجل الانضمام إلى الجهاد.
وفقا لمراجع الفقه الإسلامي الكلاسيكية ، يصبح الجهاد فرض عين إذا هُدد المسلمون في بلدانهم. ولكن بطريقة تفكير شخص مثل سيد قطب ونظرته إلى العالم، فإن المسلمين مهددين بالفعل من قبل غير المسلمين من الداخل، أي أنهم مهددين من قبل حكوماتهم. وهذا يعني أن الجهاد ضد الحكومة يصبح فرض عين. وكلما علمت عن محاولة لخوض الجهاد ضد القوى الشيطانية، فأنت ملزم للانضمام إلى هذه الحركة، وعندها (لا) يجب عليك أن تحصل على إذن من والديك. وبالمناسبة، (العهد الجديد) يحتوي على قواعد مماثلة: يجب أن لا تنتظر موافقة والديك من أجل الانضمام إلى الحركة التي ستحقق خلاص العالم.
(ماير): يقتبس مؤلف (الفريضة الغائبة) - مثل عدد من الناشطين المسلمين الآخرين - غالبا من ابن تيمية (1263-1328)، وخاصة تبرير قتل إخوانهم المسلمين أثناء الجهاد. سيكون من المفيد أن نحصل منك على وصف موجز للطريقة التي تم فيها إعادة اكتشاف ابن تيمية (يبدو أنه تم عبر رشيد رضا، 1865-1935). ولماذا أصبح مرجعا هاما للجماعات الإسلامية المتطرفة المعاصرة؟
(يانسن): الجواب هو أنه كان كاتبا ممتازا. لقد كان لاهوتي الحرب في القرن الرابع عشر. ويتقطر الغضب من صفحات كتبه التي صاغها بشكل جميل جدا وبصورة عامة لتصلح لكل عصر بحيث أنه عندما يقرأها المسلم المعاصر، أو حتى عندما قرأتها بنفسي، فإنه من المستحيل عدم التفكير في حاضر المجتمع المسلم اليوم. كتاباته تصنع إثارة وقشعريرة لدى القارئ المؤمن. وحظرت كتبه في العديد من بلدان العالم الإسلامي، بالرغم من أنها يمكن أن توجد وتباع دائما من تحت الطاولة. وأعتقد أن وجهة نظر الحكومات التي منعته سليمة لأن كتاباته بالفعل تحرض على القتال في كل عصر.
(ماير): المناقشات في الفريضة الغائبة عن أخلاقيات الحرب تؤدي إلى تبرير الأنشطة الإرهابية مثل قتل المارة الأبرياء عندما لا يمكن تجنبهم. هل يمكننا أن نعتبر كتاب الفريضة الغائبة كأول نص معاصر لتبرير الإرهاب من قبل المتطرفين من المسلمين؟ أو هل حاول أشخاص آخرون تبرير ذلك في وقت سابق؟ أي هل يشكل كتاب الفريضة الغائبة بطريقة ما سابقة فكرية معاصرة؟
(يانسن): عندما كان ابن تيمية يكتب عن الصراعات بين المماليك وجيوش المغول، كان يواجه مشكلة رهيبة. فالجيوش التي حاربت ضد بعضها البعض كانت تتكون بشكل متساو تقريبا من مسلمين وغير مسلمين في كلا الطرفين. والشيء نفسه ينطبق على معركة القرون الوسطى الشهيرة في كوسوفو: كان هناك جنود مسيحيين في الجيوش التركية، وكان يقاتل مع الصرب مرتزقة مسلمين أيضا. وكان ابن تيمية يريد إبطال الحجة التي تمنع قتل المسلم حتى عندما يقاتل ضدك في جيش عدوك.
وهذا هو ما تم اقتباسه في كتاب الفريضة الغائبة حيث نقل فرج هذه الفقرات عن ابن تيمية لتبرير قتل المارة الأبرياء. وعلى هذا النحو، يمكن اعتبار ذلك أول حجة إسلامية منهجية معاصرة لقتل المارة الأبرياء.
ولكن أنا واثق من ابن تيمية لم يفكر في فكرة (الأضرار الجانبية) Collateral Damage بالمعنى الحديث للكلمة. لقد واجهته حالة عسكرية معقدة لجيشين عسكريين يضم كل منهما محاربين مسلمين. لقد كان عليه ابتكار وتطوير نظرية تبرر القتال ضد مسلمين آخرين. ولكن من وجهة نظر مؤلف الفريضة، كان كلام ابن تيمية يعتبر دليلا وحجة بجواز قتل المارة الأبرياء، وأيضا بالمثل قتل المسلمين عند الضرورة. ولذلك، إذا تبنى شخص حجج كتاب الفريضة الغائبة، فإن قتل مسلمين عَرَضاً (بدون قصد) خلال هجمات 11 سبتمبر في مركز التجارة العالمي يصبح مبررا تماما.
(ماير): بعد عام 1984، هل كان هناك العديد من طبعات الفريضة الغائبة؟ وهل تمت ترجمته إلى العديد من اللغات الأخرى؟ وبجانب ترجمتك، شاهدت على موقع إسلامي راديكالي على الانترنت ترجمة إنكليزية للكتاب ترجمتها: (الواجب المنسي). ذكرتم أن النص العربي الحالي ليس مفهوما بسبب كثرة الأخطاء المطبعية. إلى أي مدى انتشر الكتاب؟ وهل هناك نسخة إندونيسية منه مثلا؟
(يانسن): تستطيع غالبا ودائما سماع حجج الفريضة الغائبة في المجادلات التي تجري في أندونيسيا. وهناك ترجمة أميركية قام بها عالم اجتماع قبطي ولكنه واجه مشاكل كبيرة في قراءة وفهم النص العربي. وهناك ترجمة لوكالة صحافية ولكنها عانت من نفس المشكلة. لقد تاه المترجمان في الفقرات المعقدة. لقد قدمت في ترجمتي – كما أظن - أفضل نص ممكن بعد أن أعدت كتابة النص بالعربية ولكن توجد فيها أيضا أخطاء يجب تصحيحها وسأفعل إذا حانت الفرصة. لقد رأيت الكتاب بالعربية نقلا عن نسخة عمّان (أو القدس) في مكتبات لندن وأمريكا، ولكن لا أعتقد أنه منتشر جدا. ولكن الأفكار الواردة فيه منتشرة.
(ماير): إلى أي مدى تأثر شخص مثل عبد الله عزام (مرشد ابن لادن) بالنص؟ لقد قرأت ترجمة باللغة الإنجليزية من كتابه (الحق بالقافلة)، والذي كان مؤثرا جدا على الجماعات الجهادية في السنوات الأخيرة. ومن المثير للاهتمام، أن عنوانه الفرعي يقرأ (الواجب المنسي)، إذا كانت ترجمتي صحيحة. وعند قراءة بعض المقاطع من (الحق بالقافلة)، تساءلت إلى أي مدى قد يكون هناك بعض الشبه مع (الفريضة الغائبة)؟
(يانسن): لقد وجدت نفس الإحساس عندما قرأت كتاب الإسلاموي الجزائري علي بلحاج (فصل الكلام في مواجهة ظلم الحكام). لقد نقل بلحاج أيضا العديد من المقاطع عن ابن تيمية والتي استخدمها أيضا مؤلف (الفريضة الغائبة) كأسس الحجة وحتى صياغة الجمل التي استخدمها والمصطلحات، كلها ذكرتني بالفريضة الغائبة. لا بل لقد ألهمني كتاب بلحاج بحيث لو أتيحت لي الفرصة لتنقيح ترجمتي للفريضة الغائبة فسأعتمد على المقاطع التي كتبها بلحاج نقلا عن ابن تيمية بصورة أدق مني.
ولكن لدي شعور بأن هناك مصدر آخر لذلك التشابه، فقد يكون هناك أيضا كتاب آخر وراء هذين الكتابين ولم نعلم عنه: على سبيل المثال، يمكن أن يكون هناك كتاب يتكون حصريا من اقتباسات عن ابن تيمية ولا يتم ذكره في المراجع الرسمية، ولكنه يباع فقط في الشارع. أي من الممكن أن يكون هناك كتاب مجهول المؤلف ويحتوي على مجموعة رائعة من الاقتباسات عن ابن تيمية التي ينقل منها الآخرون بدون عناء الرجوع لكتب ابن تيمية الكثيرة والضخمة، ولكنني لست متأكدا. عند هذه النقطة، لا يبدو أن نص أحدهما مستمد من الآخر.
انتهى الحوار
** ** **
هوامش المترجم:
(*) الألفية ترجمة لكلمة (ميليني يانزم) Millennialism الإنكليزية المأخوذة من الكلمة اللاتينية (ميلي نياروس) ومعناها (تحتوي على ألف). فثمة نزوع إنساني عام لفرض نظام عام على أحداث التاريخ، وهو عادةً نظام رياضي هندسـي صـارم. ومن ثم، فقد ظهر الإيمـان في كثير من الحضارات بأن العالم يشهد، في نهاية كل ألف من السنين، انتهاء دورة زمنية، وتصاحب هذه النهاية عادةً أحداث ضخمة. بل تذهب هذه الرؤية إلى أن التاريخ كله سيكون في نهاية ألف معينة. والفكرة الألفية متواترة في كثير من الحضارات. (العيسى، نقلا عن (موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية) لعبد الوهاب المسيري، رحمه الله).
ترجمة وتعليق: حمد العيسى - المغرب
Hamad.aleisa@gmail.com