قالوا قديماً دليل عقل المرء فعله فهو جهاز الكنترول الذي يتحكم بتحركات وتصرفات الإنسان إن كان خيراً أو شرّاً وأرشيف الذاكرة هي مجموعة أنماط وأفعال مختزلة يوجهها ذلك الجهاز المعقد الذي لو استخدم ذكاءه الذي وهبه الله له لرأيت عجباً فوق العجب! ولو أهمله واستخدم حمقه وغباءه لكان العالم كله في خبر كان! ولكنّ الله لطيف بعباده فجعل للعقل نصفين يراوح بينهما البشر فلا يطغي بعضهما على الآخر إلا في حالات أشبه بالنادرة فالخليل بن أحمد وهولاكو وكل منهما انتزع قسماً من الذكاء والحمق! وأصحاب المخترعات ودكتاتوريات القرن الحديث فكلاهما استخدم العقل بنصفيه وكلاهما خلدهما التاريخ سواء بمدحٍ أو ذم أو على أنك تجد للعباقرة أصحاب العقول النيّرة أنصاراً فبالمقابل أيضاً حتى الحمقى أصحاب العقول الشرّيرة الفارغة هناك من يؤيدهم ويتخذهم قدوة! والعقل بأنصافه كالأكواب نصف الفارغة ونصف الممتلئة كثير منا ينظر للنصف الفارغ ويترك الممتلئ لأنّه صاحب السلبيات التي ننظر إليها كغباء يتصف به صاحب الفعل!! وكنّا قديماً نردد قول المتنبي دون أن نلقي له بالاً:
ذو العقلِ يشقى في النعيم بعقله
وأخو الجهالة في الشقاوة ينعمُ
بينما هو يصنف صاحب العقل بين جاهل ينعم بحياة بهيمية لا يدرك كنهها فيسير إلى حتفه غير مأسوف عليه وآخر ينعم بكد عقله وتفكيره ويكون مطمئناً لما يصل إليه فهو في درجاتٍ على!! فصارت مثلاً لاستخدام العقل فيما يحقق النجاح بلذة الكد والتعب أو يكون بليداً لا يحسن التصرف! وأيضاً بهذا ينعم ولكن بالعكس!! ورواية الدكتور زكي نجيب محمود (قصة عقل) وهي سيرة ذاتية لمسيرة طويلة في العلم والأدب والفلسفة يحكي فيها قصة العقل وكيف يوجه صاحبه بمعية القلب فجعل للعقل جانبين عاماً مشتركاً يكون الناس فيه سواء وجانب وجداني يكون خاصاً له وحده وهذه قد تكون غير صحيحة فالوجدان قد يختص به القلب الذي يوجه العقل به وإنما العقل له الذاتية الذي يوقظ القلب حين يسير في طريق الخطأ!! ولربما قصد الأنانية وحب الاستئثار! ولذلك هو يطمع بعقله أن يوصله إلى أماكن لا يظن يوماً أن يصل إليها! وبما أنها سيرة ذاتية رمزية فقد يكون الأمر فردياً ولربما كان ذلك لأنها جاءت تكملة لروايته الأولى (قصة نفس) وهي أيضاً سيرته الذاتية ولكن ليس فيها الجانب العلمي والعقلي وإنما كانت عبارة عن نفسية إنسان تتجاذبه الحياة بكل تقلباتها فلما أحس بأن الرواية مبتورة شيئاً ما وإنها تحتاج إلى تكملة كان العقل الذي هو بمثابة التوأم للقلب واللذين لا ينفصلان عن بعضهما البعض وإلا كان صاحب ذلك مريضاً أو جاهلاً !!
وإرادة العقل كالجبال الراسيات قوية بقلب صاحبه حتى ولو كان هناك عائق أو عوائق يفت عضد العزائم! فعنوان الفلم الذي يحكي سيرة جون ناش عالم الرياضيات الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد صاحب نظرية (التوازن) كان موفقاً إلى حد كبير (عقل جميل)، فعلى مرض جون ناش بالانفصام وهو مرض نفسي قد يفضي إلى الجنون لأنه يتخيل أُناساً ليس لهم وجود في حياته! ومع ذلك تحدى الصعاب بكل ما أوتي ليشق طريقه نحو العبقرية الفذة بفضل عقله الذي حارب المرض بضراوة وشراسة وإصرار على التفوق والنجاح حتى تحقق ما يصبو إليه بشجاعة عقل ممتلئ يصاحبه قلب تحمّل الصعاب.
- زياد بن حمد السبيت