إنك تعيش في بلد.. أنت في غرارة نفسك تريد أن تحس فيه بالانتماء.. وأنك جزء منه.. لكي ينشأ فيه أبناؤك.. وتحس أنت فيه بالأمان هرباً، إما من الفقر أو القهر.. لكنك تتفاجأ بأن هذا البلد ينظر إليك بعين الغريب.. الذي لا ينتمي لهذا المكان.. هذا بالتأكيد يولد لدى الإنسان إحساس باللا مكان.. واللا وطن..
هذا زمان نحن فيه الواهبون
نحن الذين سنفتح الكوات نحو الله في عليائه
سنقودكم نحو الشواطئ الساحليات الغريقة في الغلال
معكم نسير.. ونطلب الجزر الغنية بالمحار
وهنا هدايانا
هنا المجداف
والمنظار
والبحر العريض
فتقبلوا منا هدايانا الصغيرة
وتقبلونا
القصيدة لعبد الرحيم أبو ذكرى الشاعر السوداني الرائع، رغم روعة إحساسة وعظمة حرفة إلا أنه عاش مجهولاً. للشاعر ديوان شعر وحيد عنوانه (الرحيل في الليل)، صدر في العام 1973 عن دار النشر بجامعة الخرطوم، وقد ضم قصائد مثل: «هدهدة»، و»المجذوب أخذ زهور حياته ورحل»، و»الهزيمة». كان موت الشاعر أبو ذكرى مأساوياً، إذ ألقى بنفسه من إحدى البنايات الشاهقة في موسكو في شتاء عام 1990. نصب له تمثال في جامعة موسكو وله العديد من القصائد تُدرس ضمن المنهج الروسي.
والمتبصّر في التجربة الأدبية السودانية يلاحظ عدم بروز أسماء أدباء وكتّاب السودان في المشهد الأدبي العربي، قد تكون لأسباب كثيرة لعل أهمها عدم وصول الكتاب السوداني إلى القراء والنقاد، وهذا يرجع لصعوبة نشر الكتاب السودانيين لأعمالهم, نظراً للتغيرات الاجتماعية والسياسية، والاضطرابات الكثيرة والنزوح والحرب الأهلية.
وسبب آخر تكمن في تأثيرات الهجرة والاغتراب اللذين كان لهما دور قوي في بلورة الشكل الحالي للإنتاج الثقافي السوداني، وهي بالضرورة أتاحت المجال لطرق مواضيع جديدة على الأدب السوداني لم تكن متداولة من قبل. وبالقدر نفسه الذي انعكست فيه هذه المؤثرات على نفسية الإنسان السوداني العادي.. انعكست أيضاً على الأدب والأدباء بمختلف أنواعهم سواء كانوا شعراء، قاصين، مسرحيين أو روائيين، فاسحةً الطريق لمجموعة من الكتاب الرافضين.. رافضين للواقع السياسي.. للواقع الاجتماعي.. وأحياناً لفكرة الانتماء.. والحركة الثقافية السودانية خجولة.. والأسوأ من ذلك أنها حركة متقدمة جداً في مسار مظلم جداً..
وما لم تعالج مشكلات النشر والنقد ستبقى حركة عبثية وغير مجدية ودون تأثير في الواقع السوداني..
في لقاء مع الروائي السوداني الأصل بريطاني النشأة جمال محجوب بصحيفة الخرطوم قال:
«أعاني من ازدواجية الانتماء.. أنا خواجة في السودان.. وأجنبي في إنجلترا. هذه مشكلة ولا أعرف كيف تحل. أنا موزع الانتماء، وصدق إذا قلت لك أينما أذهب، السودان، إنجلترا، أو الدنمرك حيث زوجتي وأولادي.. وحيث أقيم الآن أحس أن هناك شيئاً ينقصني، لا أنام جيداً وأهرب إلى الكتابة». وهذه الحقيقة التي يتعامل بها الغرب معه فهو يُصنف ككاتب أفريقي.. بغض الطرف عن سودانيته أو عروبته (بحكم الثقافة على الأقل) التي جردته منها لغة الكتابة التي استخدمها. وهذه معضلة كبيرة تواجه المثقف السوداني.
مشهد آخر للغربة والشتات.. ليلى أبو العلا كاتبة سودانية حائزة على»جائزة كين للأدب الأفريقي) بلندن، ورشحت أعمالها الأخرى لجوائز رفيعة. عن علاقتها بالكتابة الإبداعية تقول: «بدأت عام 1992، عندما كنت أعيش في اسكتلندا، كنت أشعر بالحنين إلى الخرطوم والثقافة العربية. الناس من حولي لا يعرفون شيئاً عن بلدي السودان أو عن الإسلام المكوّنين الرئيسين لهويتي، وهذا ما زاد من إحساسي بالغربة. نهاية الثمانينيات شهدت بداية تأجج العواطف ضد العرب والإسلام في الإعلام الغربي، ووجودي في بريطانيا جعلني في وضع دفاعي. فجأة وجدت أني أحتاج لأوضح أن الحياة في الخرطوم تسير بصورة جيدة، وأن الناس طيبون، والظروف هي التي أجبرتنا على المغادرة، ولم تكن خياراً. كنت أعيش في ثقافة وفي مكان يؤكدان في كل لحظة وكل ثانية (أن الغرب هو الأفضل)، أفريقيا فوضى، الإسلام يضطهد النساء، وكامرأة عربية يجب أن أكون حامدة لهروبي. حماس الشباب وعزة النفس الجريحة قاداني لأقاوم ذلك.
إن التفريق بين حالة الهجرة وحالة الاغتراب يبيّن البون الشاسع بين الحالتين.. وفي المقابل فإن النتاج الأدبي للهجرة مختلف تماماً من نظيره في حالة الاغتراب.. فنماذج جمال محجوب وليلى أبو العلا هي دون شك مثال حي للهجرة.. أما في حالة أبي ذكرى وأمير تاج السر فهما في حالة اغتراب.. لذلك بدت علاقتهما أكثر التصاقاً وقرباً من واقع الوطن.. وهمومه..
الأديب والشاعر «محمد عبد الرحمن شيبون» الذي كان يتميز بالشفافية والرقة، كان سياسياًَ متفرغاً بالحزب الشيوعي السوداني، وتركه وانتحر شنقاً عام 1960، ومن أقواله (لقد رماني من كنت أعلمه الرماية، حين اشتد من الساعد. لقد أدار لي البعض ظهورهم الباردة والتي لم تكن ساخنة في يوم من الأيام).
وانتحر أيضاً د. أحمد الطيب أحمد مؤسس ورائد المسرح السوداني، وهو من أحد مؤسسي بخت الرضا، صدر له كتاب بعنوان «أصوات وحناجر»، انتحر بواسطة تناوله كميات كبيرة من العقاقير.
لكن لم تنطفئ شمعة الأمل، فهنالك من نجح في تجاوز التجربة الصعبة، الطيب صالح من أشهر روائي السودان المهاجرين الذين ذاقوا مرارة الغربة لكنه أخذ نصيبه من الشهرة والانتشار، كان حاملاً همّ وطنه أيضاً، وهذا ما تجسّد في أعمالة، واعتُبرت روايته (موسم الهجرة إلى الشمال) مصدراً للمعرفة البحثية المتعلّقة بدراسات ما بعد الاستعمار، وترجمت إلى العديد من اللغات العالمية. حياته الطويلة التي قضاها متنقلاً بين دول العالم لم تُنسه يوماً وطنه الأم، ولم تُفارقه صورة بلدته الدبّة في مروى- شمال السودان. يقول د. أحمد البدوي عن الطيب صالح: (إنه أحد أعلامنا الذي لم نكتشفه ووا أسفي عليهم.. إنهم شوامخ خارج بلادهم أصفار داخلها.. يحضرون في إجازاتهم.. لا يعبأ بهم.. ولا يسمع عنهم.. في حين تحتفي بهم بلاد الغرب وتستقبلهم بالأهازيج وتودعهم بالمناديل حتى تتلاشى وسيلة مواصلاتهم).
هذه اللوحة التي رسمها د. أحمد البدوي جاءت شريطاً سينمائياً متحركاً يصف فيه الأحاسيس والمشاعر المكلومة والظلم الذي أحس به هؤلاء العمالقة.. وأقول كما قال وا أسفي عليهم.. إنهم شوامخ خارج بلادهم.. أصفار داخلها..
كتب الطيب صالح في الأسبوع الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) 1991م في مجلة سعودية تصدر في لندن (هل السماء ما تزال صافية فوق أرض السودان أم أنهم حجبوها بالأكاذيب؟ هل مطار الخرطوم ما يزال يمتلئ بالنازحين؟ هل ما زالوا يتحدثون عن الرخاء والناس جوعى؟ وعن الأمن والناس في ذعر؟ وعن صلاح الأحوال والبلد في خراب؟ من أين جاء هؤلاء الناس؟ أما أرضعتهم الأمهات والعمات والخالات؟ أما أصغوا للرياح تهب من الشمال للجنوب؟ أما رأوا بروق الصعيد تشيل وتحط؟ أما شافوا القمح ينمو في الحقول وسبائط التمر مثقلة فوق هامات النخيل؟ أما سمعوا مدائح حاج الماحي وود سعد -أغاني سرور وخليل وفرح وحسن عطية والكابلي ومصطفى؟»
الروائي أمير تاج السر يقول: «كما الآداب الأخرى، فإن المشهد الثقافي السوداني مُصاب بأزمات مجتمعية عديدة، لكن الاختلاف بين الأدب السوداني وبقية الآداب الأخرى يأتي من تسلّط الأزمات الفردية الناتجة عن الأزمات المجتمعية الكبرى، فالمثقف أو المبدع السوداني أكثر حساسية من غيره تجاه مثل هذه الأزمات. هناك أيضاً هاجس التهميش الذاتي، حيث الإحساس بتدني تقديره لذاته، وهناك العكس تماماً، أي تضخم الأنا التي لا تساعده».
يعد أمير تاج السر الروائي السوداني علامة فارقة في الأدب الحديث نالت أعماله اهتماماً كبيراً في الأوساط الأدبية والنقدية، كما حققت شهرة عالمية، بعد ترجمة معظمها إلى الكثير من اللغات الحية منها الإنكليزية والفرنسية والإيطالية. وصلت روايته «صائد اليرقات» للقائمة القصيرة لجائزة بوكر العربية 2011م. ترجمت رواية العطر الفرنسي إلى الفرنسية حديثاً.
ولم يعرف المجتمع السودانى تمزقاً اجتماعياً في جميع أدوار تكوينه تاريخياً مثل التمزق الذى عاناه في الربع الأول من القرن العشرين تحت أقدام الغزو الغربي المتمثل في بريطانيا، ولعل أهم هذا التمزق الصراع الحضاري والثقافي والتي حملت معها مُثُلاً وقيماً جديدة لم تكن متعارفة من قبل، أضف إلى ذلك الصراع السياسي الذي حاول الاستعمار أن يتدخل فيه، وانقسام الجنوب عن الشمال.
يقول الشعر محجوب شريف:
وحياة أمنا الخرطوم
أشيل شيلي وأشد حيلي
وأموت واقف على حيلي
وأقولك يا أعز الناس
على الوعد القديم جايين
احلام الفهمي - الدمام