تحولات الخطاب عند عبدالله الغذامي (1-8)
1- الحياة بين قسمتي ونصيبي:
للروائي المعروف نجيب محفوظ قصة لافتة في دلالاتها الفكرية، وفي تعبيرها الرمزي عن التيارات المتدافعة في مجتمعاتنا العربية، عنوان هذه القصة هو: قسمتي ونصيبي (وهي إحدى قصص مجموعته القصصية: رأيتُ فيما يرى النائم)، وفيها يحكي قصة محسن العطار الذي امتدّ به وبزوجته العمر دون أن يُرزقا بذرية، وبعد محاولات استشفائية كثيرة استسلما لنصيبهما، ورضيا بما قسمه الله لهما، وبعد أن تجاوزا الأربعين ودون مقدّمات شعرت الزوجة بدلائل الحمل، فاستبشرا خيراً، وغمر الفرح بيتهما، وهكذا انقضت أشهر الحمل ووضعت المرأة أخيراً حملها؛ لكنّ الطفل الموعود الذي كان الزوجان يتحرقان شوقاً إليه ظهر لهما بوضع غير مألوف، فقد كان توأماً ملتصقاً من الأسفل حتى البطن، ثم يتفرع بعد ذلك إلى اثنين؛ لكلٍّ منهما صدره وعنقه ورأسه، آمن الزوجان بقضاء الله وقدره، وسلّما أمرهما إليه، وسمّيا أحدهما: قسمتي، والآخر: نصيبي.
مرت الأيام والأعوام وكبر التوأمان، وتميزت شخصيتاهما، واستقل كلٌّ منهما عن الآخر في رغباته واهتماماته ورؤيته للحياة ولدوره فيها؛ ولكن لأنهما كانا يسكنان جسداً واحداً كان عليهما أن يتعلما التعايش سوياً، والتكيف مع الحقيقة المرّة التي خبراها معاً، وهي: التباين الكبير بينهما في الشخصية والرؤية، وفي الأشواق الروحية، وفي الأحاسيس الخاصة والتطلعات الفردية؛ غير أن هذا التعايش المفترَض لم يتحقق بين الأخوين: قسمتي، ونصيبي، وكان الوالدان يحاولان على الدوام وبكل حدب وشفقة تذكيرهما بعواقب هذا الشقاق بينهما، وأن سعادتهما تكمن في توافقهما، وأنه في حالتهما تحديداً ليس هناك منتصر ومهزوم، وإنما سيكونان إمّا منتصرَين معاً، أو مهزومَين معاً، وهي الحقيقة التي لم تتجسد عياناً لهما وللقارئ معهما إلاّ عند نهاية القصة.
تومئ هذه القصة الرمزية إلى طبيعة العلاقة بين تيارين فكريين متصدرين في معظم المجتمعات العربية، وهما: التيار المحافظ، والتيار الذي يجنح نحو التجديد والانفتاح، هو إذن صراع أنساق داخل ثقافتنا العربية كما يحب الدكتور عبدالله الغذامي أن يعبِّر دائماً، والقصة تذكِّر بحق كلا التيارين في الوجود والبقاء؛ ولكن وفق صيغة تعايش مشتركة؛ لأن الخطر الحقيقي الذي يهدد وجودهما معاً هو عدم قدرتهما على صنع هذا التوافق، واعتقاد كل واحد منهما أن سعادته تكمن في رحيل الآخر؛ غافلاً عن أن هذا الرحيل يعني التضحية بجزء مهم من الجسد «الوطن» الذي يسكنان فيه، ويعمرانه معاً، وهو ما سيؤدي في النهاية إلى تعطل الجسد بأكمله؛ كما حدث في نهاية القصة.
2- آليات التفكير هي القضية:
من المهم التنبه إلى أن تصدّر هذين التيارين: المحافظ، والتجديدي، واعتلاءهما واجهة الأحداث والمنابر لا يعني أن المجتمع بأكمله منقسم بينهما، إنه يعني فحسب أن لكلٍّ منهما حضوراً بارزاً في أوساط الناس؛ مع التفاوت في مقدار هذا الحضور بين شريحة وأخرى داخل المجتمع، وتبقى في النهاية مساحات كبيرة للأغلبية المتأمِّلة التي توافق أحد التيارين في أمر، وتخالفه في أمر آخر، كما تفعل الشيء نفسه مع التيار الآخر، والواقع أن الشريحة الأكبر من الناس تستفيد من وجود التيارين معاً؛ لأن تدافعهما يمنع افتئات المنتصر منهما على المجتمع، وتغوّله في التعامل مع المخالفين له، وهي سنّة إلهية في دفع الناس بعضهم ببعض؛ ليبقى التوازن الناتج عن هذا التدافع المحسوب بقدَر الله هو المتحكِّم في إيقاع الحياة.
صعوبة التوافق بين التيارين تعود - كما تجسِّدها القصة السابقة - إلى ما يتصف به أحدهما من جموح ورغبة مستمرة في إضفاء الإثارة والتجديد على حياته؛ ولو باستفزاز الطرف الآخر، بينما يتسم الطرف الآخر بالمثالية التي تقوده إلى الحساسية، فتجعله دائم الامتعاض من تصرفات صاحبه، وأكثر قابلية للاستفزاز؛ غير أن الخلافات بينهما ما دامت محصورة في حدود الامتعاض والتضايق من جهة، والتضجر من القيود وضيق الأفق من جهة أخرى فهي خلافات معقولة ومقبولة، المشكلة الكبرى تقع حين يلجأ أحدهما أو كلاهما إلى الحلول الجذرية الاستئصالية لوضع حد نهائي لمعاناته مع الطرف الآخر؛ غيرَ مدرك أن هذا الحد النهائي الذي يروم الوصول إليه هو ما سيفقده التوازن الذي كان يعتمد - دون أن يشعر - عليه.
بعبارة مختصرة: وجود هذين التيارين في المجتمع أمر طبيعي، والصراع المتوازن بينهما سنّة إلهية، الإشكال يكمن فقط عند أصحاب عقدة الإقصاء والاستئصال في كلا التيارين، والغريب أن ما يجمع هذه الفئة الاستئصالية من الطرفين في بِنيتها النفسية والفكرية العميقة أكثر بكثير مما يفرق بينها في الظاهر، فهم بطبيعتهم إقصائيون، وبعيدون عن الحلول التعاونية البن ّاءة، والمواقف التوفيقية الجامعة، كما أنهم يتشابهون في الجنوح نحو الصخب والتهييج لحشد الأتباع، واستعمال الأساليب الحادة والدنيئة عند مهاجمة الخصوم، وهذا كله يعود إلى مشكلات مركّبة لديهم في طريقة النظر إلى الذات أولاً، وفي كيفية رؤية الآخرين ثانياً، وفي القصور عن استيعاب سُنن الحياة المطّرِدة وقوانين الاجتماع البشري ثالثاً.
وقد شهدنا في مجتمعنا على امتداد ربع قرن من الآن الكثير من التراجعات والانتقالات بين التيارات الفكرية، فرأينا كيف استمرت العقليات العميقة المتزنة على عمقها واتزانها رغم تغيّر كثير من أفكارها ورؤاها، ورأينا كيف انتقل بعض الأشخاص من النقيض الفكري إلى النقيض، ومع هذا فقد استمرت لديهم سمات: الحدّة في التعبير، والأُحادية في التفكير، والإيمان بالحلول الجذرية الوحيدة، ورأينا كيف ينتقدون الانغلاق والإقصاء بأسلوب أشد انغلاقاً وإقصاء.. تغيرت أفكارهم؛ ولكنّ آليات التفكير عندهم لم تتغير!
3- الطريق الثالث.. والمعنى المؤجَّل:
ذاك ما يجمع الإقصائيين من التيارين، ماذا عن أصحاب الطريق الثالث؟ ما الذي يجمعهم؟.. من المؤكد أولاً أن ما يجمع المنتمين لهذا الطريق ليس الأفكار الموحدة؛ إذْ هم متباينون في انتماءاتهم واهتماماتهم ومنازعهم الفكرية؛ ولكنهم يتقاربون بعد ذلك في الميل إلى الأسلوب المتأني في الحوار، والمرونة الفكرية في التعامل مع الأفكار، وإلى قبول الاختلاف؛ لا بمعنى التسليم بكل ما يطرحه المخالف من آراء، بل بمعنى احترام حقه في التعبير عن هذه الآراء؛ لأنهم يؤمنون بأن الاختلاف سنة من سنن الاجتماع البشري ليس بيدهم تخطّيها، أو إيقاف اطرادها.
من سمات أصحاب الطريق الثالث كذلك: السعي الدائم إلى تصحيح مسارهم، والمراجعة المستمرة لأفكارهم، وفي عالم بناه الله على الحركة الدائبة، والتغير المطّرِد لا يرون أنفسهم استثناء، فلا يحتملون التقوقع والسكون، وما يعتقده بعض الناس من فضيلة الثبات على الآراء والمواقف القديمة هو عند أصحاب هذا الطريق مجرد وهْم دافعه خوف نفسي من التغيير، ولعل سبب هذه الشجاعة النفسية التي يتصف بها أصحاب هذا الطريق يعود إلى أن الرجاء غالب عليهم، وثقتهم كبيرة بخيرية الإنسان، وبأن القادم أفضل، وهو ما يعرِّضهم إلى الاتهام بالسذاجة وعدم فقه الواقع؛ وبخاصة من قِبَل الإقصائيين الميالين بطبعهم إلى الخوف والتشاؤم؛ حتى لكأن الفارق بين هؤلاء وأولئك هو في جذره الأعمق اختلاف نفسي؛ قبل أن يكون اختلافاً فكرياً.
ومن سماتهم أيضاً: الميل المبدئي إلى سبر الأقوال الشائعة، واختبار الأحكام المعمّمة، فالتسليم الأولي بهذه الأقوال والأحكام يستلزم الاندماج مع العقل الجمعي، والتماهي مع العموميات، وهم لا يستطيعون ذلك؛ لأن التفاصيل تستحوذ على اهتمامهم، وتفكيرهم المستقل يدفعهم إلى البحث الدائم عن الإمكانات الأخرى والطرق البديلة للوصول إلى الهدف؛ حتى لو كانت غير مسلوكة، وضريبة أن تكون نفسَك هي: أن يكون هناك دائماً مسافة بينك وبين الشائع من الآراء والمواقف والتوصيات.
4- أعلم الناس هو أعلمهم باختلاف الناس:
قالها أبو حنيفة بعبارة جامعة عميقة بعد أن عرض على جعفر الصادق - رحمهما الله - خمسين مسألة فأجابه بأقوال العراقيين، والحجازيين، وغيرهم، فخرج من عنده مستنتِجاً هذا القانون المعرفي الدقيق في دلالته ونتائجه. يكشف هذا القانون أن التبحر في العلم يورث صاحبه اتساع الرؤية والتدقيق عند تناول أيّ مسألة؛ من أجل استيعاب تفاصيلها، والزوايا المختلفة للنظر إليها، وهو ما يؤدي إلى تعزيز النظرة النسبية لكثير من القضايا؛ لأن القراءة المكثفة تقف بصاحبها على اختلاف العلماء والمفكرين حولها قديماً وحديثاً، فأعلم الناس - كما يقول أبو حنيفة - هو من يدرك اختلاف الناس حول مسائل العلم، فيقبل هذا الاختلاف، ويحترم المختلِف، وإنْ رجّح رأياً آخر لسواه؛ لأن الجدّية في الدرس، والمثابرة على الاطلاع تغرس في نفس صاحبهما احترام المثابرين الجادين حتى لو اختلف معهم. ولعل هذه العبارة الجامعة تفسِّر لِمَ يميل أصحاب الطريق الثالث إلى تجنب التسرع في تصنيف المخالِف، والتأني عند إصدار الأحكام على الظواهر المستجِدّة.
5- الغذامي.. وما بعد المعنى:
هل يمثِّل الغذامي أصحاب الطريق الثالث؟ أو: هل أصبح الغذامي الآن يمثِّلهم؟ أو: هل أن بحثه المستمر عن المعنى، وعما بعد المعنى أيضاً هو ما يمثِّل جوهر الطريق الثالث؟ هل الطريق الثالث كائن أم هو مشروع يتكوّن؟ أمام هذه الأسئلة المتوالدة ستحتاج قارئي الكريم إلى شيء من الصبر والأناة؛ لتتبع خيوط إجاباتها المتناثرة عبر سبعة محاور تلخص رحلتنا الممتدة في عالم الغذامي، وستتناولها المقالات القادمة بإذن الله محوراً تلو الآخر، وهذه المحاور هي:
1- الغذامي والحداثة الشعرية.
2- الغذامي والنقد الثقافي.
3- الغذامي.. والمرأة.
4- الغذامي والروائيون.
5- الغذامي ومابعد البعد.
6- الغذامي المفكِّر.
7- الغذامي الإنسان.
وقد خصصتُ لكل محور من هذه المحاور السبعة مقالة مستقلة، هذا يعني أن حديثنا على مائدة الغذامي سيطول، وكلّ ما أرجوه أن يجد القارئ فيه شيئاً من الفائدة، وقدراً من المتعة، ونوعاً من الاختلاف تُنبئ بمجموعها عمّا وجدتُه أنا في هذه المائدة العامرة من أطايب وثمرات مختلفات.
د. سامي العجلان - الرياض