كلُّ إنسان بالغ عاقل هو إما ديني أو لا ديني، والأول هو ما يهمنا في هذا الموضوع.
والدينيُّ إمّا أن يكون مسلمًا، أو أن يكون من أتباع الأديان الكثيرة الأخرى، والأول -أي المسلم- هو الأكثر أهمية لي أيضًا الآن هنا.
فالمسلم إما أن يكون قادرًا على فهم دينه ونصوص دينه بنفسه، أي أنّ عقله بلغ منزلة تخوّله استخراج واستنباط واستقراء واستنتاج الأحكام والقوانين والتشريعات الدينية المختلفة، واستيعاب الأوامر والنواهي المتعددة في نصوص دينه، بشكل سليم أو صحيح وفق معاييره ومقاييسه، بالربط بينها وتحليلها ودرء التعارض بين ما يظهر فيه تناقض أو تنافر أو اختلاف أو ازدواج.. ومن ذلك في الإسلام مثلا وغيره: القدرة على التفريق بين الخاص والعام، والمطلق والمقيد، والظاهر والباطن، والكلّي والجزئي، والمجمل والمبين، والصحيح والضعيف، والناسخ والمنسوخ... إلخ.
وإمّا أن يكون هذا الديني المسلم أو غير المسلم عاجزًا عن القيام بتلك العمليات بنفسه، لضعف قدراته العقلية أو توهمه وجود ذلك الضعف، أو لهبوط مستواه اللغوي، أو لقلّة معلوماته وضيق دائرة اطلاعه ومعرفته، وما شابه ذلك.
الفئة الأولى لا تهمني كثيرًا في هذه المقالة، أعني الفئة القليلة؛ فئة القادرين على فهم دينهم ونصوصه بأنفسهم..
أما الفئة الثانية الكثيرة فهي المخاطبة في مقالي هذا؛ لأنها في وجهة نظري -بكل صراحة- من أكبر أسباب كثير من مشاكل مجتمعاتنا العربية عامة، وخاصة الخليجية، فقد قادَ أفرادَ هذه الفئة عجزُهم عن فهم الدين الإسلامي أو توهم بعضهم وجود ذلك العجز عندهم.. قادهم ذلك إلى تبعيّة عمياء وببغائية جوفاء، سلبتْ منهم وهمّشت فيهم أجلَّ وأعزَّ ما يملكه الإنسان وهو العقل وملكاته.
فإذا كنتَ عزيزي القارئ من الفئة الثانية، أي إذا كنتَ تتوهم أو تشعر أو تعاني فعلا من شيء من العجز أو الصعوبة في فهم الدين ونصوص الدين أو بعضها أو كثير منها بنفسك، فعلى الأقل: استعرضْ الآراء الدينية الذائعة أو القوية أو المشتهرة المنتشرة حول (المسألة الدينية) التي تبحثها أو تريد رأيًا مقنعًا فيها أو حكمًا شرعيًا لها.. استعرضْ مجموعة من الآراء والمواقف والرؤى المتداولة حولها، خاصة العقلانية منها، التي تصدر عن (المفكرين المسلمين)، ثم استخدم عقلك للترجيح بينها وتقديم الأكثر إقناعاً لك على غيره من الآراء التي تراها مرجوحة أو أضعف من غيرها أو أقل حججاً وأدلة.
هذا أفضل بكثير من الانقياد الغبي خلف شخص أو أشخاص.. الأمر يسير، وأنتَ قادرٌ على ذلك، وهو حلٌّ أراه سهلا ومناسبًا لك، وممهدًا لانتقالك إلى الفئة الأولى الأرفع التي أشرنا إليها أعلاه، أعني فئة القادرين على فهم دينهم ونصوصه بأنفسهم..
نعم؛ إنه حلٌّ يسيرٌ سهلٌ في نظري، فليس الترجيح بين الآراء الشرعية بتلك الصعوبة التي يتصوّرها البعض، فدع عنك السير المتعصّب وراء ذلك الرمز أو ذلك الواعظ الذي سيطر على عقولٍ كثيرة فسلبها حريتها وحقها في التفكير والاختيار، لمجرد أنه مشهور يلتف حوله عدد من المغيبين، الذين يبالغون في التصفيق والتطبيل والتكبير والتهليل بعد أقواله وأفعاله، حتى لو انتهتْ بهم -كما يحصل دائماً- إلى تفجير أنفسهم وتدمير أوطانهم ومجتمعاتهم وغيرها من أوطان الأبرياء وتجمعات المدنيين.
افتحْ النوافذَ المغلقة الكثيرة حولك، وتأكد أنك ستجد من أشكال وألوان المعلومات والمعارف الدينية وغيرها الكثير مما هو ألذ وأطيب بكثير من تلك الجرعات التلقينية التغييبية المُرّة، التي تعودتَ على تجرّعها دون تأملها أو التفكير في صحتها؛ لأنها صدرتْ من ذلك الواعظ أو الرمز المقدس عندك، الذي ربما خدمته ظروف أو عوامل معينة، فجعلته في هذه المنزلة التي تظنها رفيعة، مع أنه لا يستحقها في الغالب، أو أنه -كما هو حال الكثيرين منهم- مجرد حافظ نصوص معينة تصب في ناحية معينة، أخذها هو أيضاً بالتلقين ممن سبقه من أمثاله الذين يتجاهلون -عمدًا في كثير من الأحيان- كلَّ نص أو شرح أو تفسير ديني يخالف ما يريدونه هم من المعاني والأحكام والفتاوى التي تحقق لهم أهدافاً أو رغبات شخصية أو جماعية معينة.
وببساطة أقول لتلخيص ما أريد إيصاله لكل فرد من أفراد هذه الفئة المغيبة التابعة الخاضعة:
اقتربْ من المفكرين الإسلاميين وغير الإسلاميين، ومن علماء الشريعة العقلانيين الحقيقيين، الذين يُعملون عقولهم بقوة في كلِّ صغيرة وكبيرة قبل أن يطرحوا آراءهم وأفكارهم وتصوراتهم.. جرّب الاقترابَ من عددٍ منهم، وخذ آراءهم المختلفة في المسألة التي تبحثها أو تريد حكمًا شرعيًا لها، ثم قارنْ بين أقوالهم وكتاباتهم ومواقفهم المتعددة، ورجّح بينها واختر الأقوى في نظرك والأنسب لك ولفهمك.. وابتعد -في المقابل- عن أصحاب الصياح والنواح من الوعاظ وحفظة النصوص البعيدين عن التأمل العقلي والتفكير المنطقي.
نعم؛ قد تختلف آراء ومواقف ورؤى مفكري الإسلام وفلاسفته وعلمائه العقلانيين حول قضية ما أو موضوع ما؛ ولكنهم جميعا في النهاية يرجعون إلى القرآن والسنة، ويستشهدون دائماً بما ورد في نصوصهما للاستدلال أو الاحتجاج أو البرهنة على صحة مواقفهم وأقوالهم وأفعالهم وجميع سلوكياتهم الظاهرة والباطنة على مختلف الأصعدة.
فالمفكرون الإسلاميون -مهما اختلفوا في الآراء الفرعية- يتفقون على أن القرآن والسنة احتويا على كمال تام وترابط شامل بخصوص (نظرية المعرفة) على سبيل المثال، وهذا في الحقيقة هو الدافع الكبير الذي جعلهم ينتجون ويخرجون بكثير من المؤلفات والتصورات والآراء والأفكار والمواقف القوية في مختلف المجالات والعلوم منذ القدم - في الطب والجبر والفلك والحساب والفيزياء والكيمياء والمنطق وغيرها؛ فضلا عن علومهم الشرعية، من فقه وعقيدة وتفسير وحديث وفرائض ولغة عربية ..الخ.
كما أنهم يتفقون من الناحية التعليمية والتربوية، على أن نصوص الإسلام جاءت بفلسفة تربوية كاملة شاملة، هي الأنسب للإنسان في نظر كثير من المسلمين في مختلف المجالات ونواحي الحياة.
فلماذا تبتعد عنهم وعن سعة دائرة آرائهم أيها المغيّب الخاضع لفلان أو علان من الوعاظ أو الدعاة السطحيين، وتصرُّ على لبس ثياب بالية ضيّقة فصّلها لعقلك من أراد تقييده وتغييبه وأدلجته وتوجيهه إلى ما يراه هو صحيحاً أو مناسبًا أو محققاً لمصالحه.
يقول ابن رشد: «الله لا يمكن أن يعطينا عقولا ويعطينا شرائع مخالفة لها».
انتهى الشق الأول الأطول من مقالي هذا، والشق الثاني سيكون أقصر قليلا، وسيلامس نفس الموضوع من زاوية أخرى، أي سيتناول موضوع (الفهم الصحيح للدين) من ناحية أو جانب مختلف.
فمع تصاعد الجدل حول تنظيم «داعش» مثلا، حاولتُ أن أجيب مرارًا عن السؤال الكبير الذي يتردد كثيراً هذه الأيام، وهو: هل داعش تمثل الإسلام؟ هل تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» يمثل الإسلام؟!
وكانت إجابتي دائمًا وأبدًا عن مثل هذا السؤال، هي أن الإجابة عنه غير ممكنة في نظري، إلا بعد الإجابة عن السؤال الذي يجب أن يسبقه، وهو: ما هو الفهم الصحيح للإسلام؟ حيث تدّعي كلُّ طائفة أو فرقة من مئات الطوائف والمذاهب الإسلامية قديمًا وحديثاً أن الإسلامَ هو ما يراه رموزها وشيوخها ووعاظها ودعاتها ومنظروها ومفكروها إسلامًا.
وتعود بي الذاكرة إلى أخ كريم، قرأ قبل فترة كلامًا لي، ففهم منه فهمًا مغلوطًا معينًا، وأرسل لي قائلا بناء على ذلك الفهم:
أستاذ وائل: إن كنتَ لم تجد في الإسلام وهو وحي من الله عند معتنقيه منهجًا متكاملاً يستحق التبنّي، فكيف وجدتَ في «العلمانية» وفيها شركاء متشاكسون منهجًا يستحق منك الانتساب والتبنّي؟!
قلتُ له: أي إسلامٍ تقصد؟ حدِّدْ لنقف على أرضية مشتركة قبل الانطلاق في الحوار حول تبنّي الإسلام. هل تقصد إسلام «داعش»، أم إسلام القاعدة والنصرة… أم إسلام الأزهر، أم إسلام سيد قطب وحسن البنا – إسلام جماعة الإخوان المسلمين، أم إسلام مجتمعنا السعودي الذي انقسم شيوخه إلى عشرات الإسلامات، أم إسلام الحوزة الشيعية، أم إسلام الصوفية أم الأشاعرة أم المعتزلة أم الجبرية أم القدرية أم الجهمية؟! هل تقصد الإسلام الحنبلي أم المالكي أم الحنفي أم الشافعي أم الظاهري؟...الخ
لا تقلْ: أقصدُ الإسلام الذي قصده الله ورسوله، فالكل اليوم يزعم أنه يمثل الله ورسوله، والكل له حجج وبراهين وأدلة، والمسلمون يقتلون بعضهم في كلِّ مكان دفاعًا عن الإسلام!. فأي إسلام تقصد؟!
وائل القاسم - الرياض