كان أول لقائي بالأستاذ عبد الله بن حمد الحقيل عام 1405هـ/ 1985م، في مكتبه بدارة الملك عبد العزيز في مقرها آنذاك في شارع المعذر، بالقرب من حي الناصرية، وكان يشغل وظيفة المدير العام للشؤون الفنية، ويتولى إدارة تحرير مجلتها منذ عام 1400هـ، وهو العام الذي نقلت خدماته فيه من وزارة المعارف إلى الدارة. وكانت قد انتقلت من مقرها الأول في شارع الخزان إلى مقرها الثاني.
حين زرته كنت أحمل بحثاً مطبوعاً بالآلة الكاتبة، التي يسميها إخواننا العراقيون الآلة الراقنة، وهي تسمية مقاربة، ولكنها ليست دقيقة. عنوان البحث: (آراء المنفلوطي في كتاب عصره)، قدمته إليه، وبعد أن اطّلع عليه وعدني بنشره في أحد أعداد المجلة القادمة. وأذكر أنه صحح لي خطأ نحويّاً في الصفحة الأولى.
نشر الموضوع في العدد الرابع من السنة العاشرة من عمر المجلة في شهر رجب عام 1405هـ/ آذار 1985م. من ص 49-58.
وزرته مرة أخرى في مكتبه في مجلة الدارة عام 1414هـ وكان قد استمر مديراً لتحرير المجلة بعد تقاعده عن العمل أميناً عاماً للدارة عام 1413هـ، وقدمتُ له بحثاً آخر عنوانه: (أبو هلال العسكري عالم البلاغة والنقد)، نشر في العدد الأول من السنة العشرين، عدد، شوال- ذو القعدة – ذو الحجة 1414هـ، الموافقة لأشهر نيسان – أيار – حزيران 1994م، من ص 192- 220.
ومما لاحظته أن كان يتولى كتابةَ افتتاحية المجلة طَوَال تسعة عشر عاماً، وهي افتتاحيات متنوعة المشارب تتناسب في الطرح الثقافي والتاريخي مع طبيعة الأعداد التي توحي بموضوع الافتتاحية.
وأسرته التي ينتسب إليها من الأسر الكريمة المشهورة في المجمعة وغيرها. عرفت أباه منذ صغري؛ كان صاحب دكان في سوق المجمعة القديم الأثري، ولازلتُ كأني أشاهد الدكان في الجهة الشرقية الشمالية من السوق، بابه إلى جهة الغرب، وكان على غرار الدكاكين المعروفة في بلدان نجد في ذلك الوقت، مساحة ضيقة والأرض مفروشة بالتراب، والبضائع ركم بعضُها فوق بعض، والكهرباء لا وجود لها، وآذان المغرب وقتُ الإقفال.
وعرفتُ أخاه الشيخ عثمان بن حمد، الذي يكبره سنّاً منذ أن التحقتُ تلميذاً في السنة الأولى الابتدائية في المدرسة السعودية الأولى التي افتتحت في المجمعة عام 1356هـ، كان – حفظه الله ومتعه بالصحة – من رواد التربية والتعليم والإدارة في المجمعة، ومن الأئمة الخطباء، ومن وجهاء المجمعة، تولى إدارة المدرسة السعودية الأولى مدة من الزمن، ثم تولى إدارة المعهد العلمي، وكان - إلى جانب ذلك كله - إماماً للمسجد الجامع القديم في المجمعة، يتولى خطبة الجمعة فيه، واستمر في ذلك عدة سنوات. وكان في تلك الأيام المسجد الوحيد التي تقام فيه صلاة الجمعة. ولمزيد من هذه المعلومات يمكن الاطلاع على العدد (2123) من مجلة اليمامة الصادر في الخامس والعشرين من شهر رمضان المبارك عام 1431هـ.
عرفت أباه وأخاه قبل أن أعرفه، وقبل أن أسمع باسمه، وألتقي به. كان قد سبقني بالدراسة بنحو سبع أو ثماني سنوات، ورحل إلى الطائف قبل أن ألتحق بالدراسة؛ لإكمال تعليمه في مدرسة دار التوحيد مع مجموعة من زملائه ومجايليه من أبناء المجمعة وغيرهم، كان ذلك عام 1370هـ - 1950م. ودار التوحيد تعد في تلك الأيام نموذجاً للمدرسة الحديثة الراقية، ولا يوجه إليها من الطلاب إلا من أثبت جدارته وتفوقه. والدراسة فيها كانت تركز على إجادة اللغة العربية، ورعاية المواهب الأدبية، وكان لها نادٍ منبري يتبارى فيه الطلاب للمرانة على الخطابة والارتجال وإنشاد الشعر. وأُثِرَتْ قصائدُ جيادٌ ألقيت من منبرها الأدبي لشعراءَ شُدَاةٍ، أصبحوا بعد ذلك من مشهوري الأدباء والشعراء كعثمان بن سيار، وعبد الله بن خميس، وعبد الله بن حمد الحقيل.
التحق بعد ذلك بكلية اللغة العربية بالرياض عام 1374هـ- 1954م، وهو العام الذي افتتح فيه المعهد العلمي بالمجمعة، وتخرج في الكلية عام 1378هـ - 1958م، بعد أربع سنوات قضاها في تلقي علوم اللغة العربية على يد ثلة من كبار علماء الأزهر وغيرهم. وكان تخرجه ضمن دفعتها الثانية. وكان من زملائه الذين تخرجوا معه: عبد الله بن عبدالكريم المفلح، وعبدالعزيز بن عبد الله الرويس، وأ.د. محمد بن سعد بن حسين، وعبدالعزيز بن عبد الرحمن الخريف نزيل حريملاء، ومن أشهر من كتبوا الرثاء نثراً.
كانت هذه هي مرحلة التكوين اللغوي والتأسيس الثقافي للأستاذ عبد الله بن حمد الحقيل الذي كرمه نادي الرياض الأدبي في اليوم العالمي للغة العربية، احتفاءً بما قدمه من خدمات للغة القرآن الكريم. هذا التكوين الذي غرس في حنايا قلبه حُبَّ العربية، وأُشربَ الغيرةَ عليها، ووفقه الله تعالى للمنافحة عن حوزتها، مما يزاحمها من لغاتٍ وافدة، ويضيمها من لهجات محلية وعربية، ومما يجري على ألسنة بعض المتحدثين والكاتبين بها من لحون بغيضة، وتهاون في الضبط الإعرابي والصرفي والإملائي، لو حدث في عصور العربية الزاهية لعد عقوقاً للعربية، وخروجاً عليها، وعلى ما تحمله من أواني الثقافة والمعرفة، وفي مقدمتها كتابُ الله الكريم، وسنةُ نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
صَحِبَ العربيةَ صُحبةَ محب وَامِقٍ طَوَال سِنِيِّه الدراسية، وكانت لغة محفوظة لها مكانتها الممتازة من بين المواد المقررة، تحظى بالنصيب الوافر في الخُطط الدراسية، وتضافرتْ عِدّة علومٍ تَخْدُمُهَا، وتُعلي من شأنها، وتحافظُ على سلامتها. وهي في منزلتها لا تقل عن العلوم الدينية، بل إن إستيعابَ هذه العلوم وغيرِها لا يتم إلا بها، فهي لغةُ العلم والثقافة، ولسانُ الخطيب والشاعر والكاتبِ والمؤلف.
لهذه الأسباب لم ير هِجْرَانَ لغةٍ صَحبها سنين في قاعة الدرس، وفي صفحات الكتب، وفي منتديات الخطابةِ والشعر، وفي كل مقام ينطق بعظمةِ اللغة العربية، وبلاغتها وجمالها، فواصل مسيرته معها من طريق آخر طريق العطاء، وردِّ الدين، والإسهام في خدمتها في أكثر من موقع ومجال.
التحق بوزارة المعارف عام 1379هـ - 1959م مدرساً لعلوم اللغة العربية في مدرسة اليمامة الثانوية في الرياض، وكانت من أشهر المدارس في ذلك الوقت، واكتسبت من الشهرة وذيوع الصيت ما لم تكسبه بعض الجامعات اليوم، ولا يماثلها في الشهرة إلا ثانوية الشويخ في الكويت، فقد كانت شهرتها شهرة جامعة عريقة قبل افتتاح جامعة الكويت عام 1386هـ - 1966م.
وعين مديراً لمدرسة اليمامة الثانوية عام 1381هـ- 1961م. وألزم بإدارتها، وكان على وشك أن يسافر لإكمال دراسته العليا في الولايات المتحدة؟
وواصل صلتَهُ باللغة العربية فعمل موجهاً لها في وزارة المعارف، ومدرساً لعلومها في الدورات التي عُقِدَتْ لمدرسيها في الطائف، وهي دورات تعليمية تربوية.
ولامتيازه في تعليم اللغة العربية، علماً وتربيةً، وإخلاصاً ندب لتدريسها وتدريس التربية الإسلامية في كلية المعلمين في وهران بالجزائر عام 1384هـ - 1964م ومكث هناك عامين، يعلم العربية، ويسهم في التعريب، ويوجه المعلمين، ويلقي المحاضرات.
وكانت الجزائر منذ أن استقلت عن الإحتلال الفرنسي البغيض عام 1382هـ - 1962م، حريصة أشد الحرص على تعريب الشعب الجزائري الذي فرضت عليه اللغة الفرنسية منذ الإحتلال عام 1830هـ، وحارب اللغة العربية محاربته كلَّ من يدعو إلى الإستقلال. وتعد وهران من كبريات المدن في الجزائر، وتحتل المرتبة الثانية بعد الجزائر العاصمة، أسسها التجار العرب من الأندلس في القرن العاشر الميلادي، وقيل أسسها البحارة الأندلسيون عام 902م، وتبعد عن الجزائر العاصمة بنحو 450 كيلاً.
ويمثل تدريسُ المدرسين السعوديين الذين وفدوا على الجزائر بعد استقلالها تجاربَ حيةً تَنْبِضُ بالحياةِ والوقائِع والمشاهداتِ والآراء، يجدر أن تروى وتدون، ولا سيما أنهم عاشوا مع شعبٍ حديثِ عهدٍ باستقلال، حيل بينه وبين لغته ودينه، ووضعت بينه وبين العالم العربي والإسلامي حواجب صفيقة.
ثم انتدب مَنْ نتحدث عنه الليلة في إطار تكريم النادي له إلى لبنان عام 1389هـ - 1969م؛ لتدريس اللغة العربية وعلومها في ثانوية الدوحة ببيروت، ومكث مدرساً هناك عامين، امتد نشاطه اللغوي هناك إلى إعداد البحوث وإلقاء المحاضرات عن اللغة العربية.
من المحاضرات التي ألقاها في ثانوية الدوحة ببيروت عام 1390هـ - 1970م (قضية اللغة العربية بين الفصحى والعامية)، نشرها في كتابه (رفقاً بالفصحى) ص 10 – 18.
وعلى الرغم من انتقال خدماته من الميدان التعليمي والتربوي إلى جهة ليست التربية والتعليم وقضايا اللغة العربية من إهتماماتها – وهي دارة الملك عبد العزيز – فإنه تمكن من أن يوفقَ بين عمله الجديد الذي يعنى بالتاريخ في المقام الأول، ولاسيما تاريخ المملكة، وبين اهتمامه بقضايا اللغة العربية، فأصدر إبان إدارته لتحرير مجلة الدارة كتابه: رفقاً بالفصحى عام 1417هـ - 1996م. ويضم خمسين موضوعاً كلها في صميم مسائل اللغة العربية ومشكلاتها، وأصدر كتابه الثاني: اللغة العربية: هُوية وانتماء عام 1432هـ - 2011م. ويتضمن ثلاثاً وثلاثين مقالة لغوية. وامتدت عنايته بلغة الضاد إلى مؤلفاته الأخرى مثل كتابه: الشذرات في اللغة والأدب والتاريخ، وكتابه: المفيد في الإنشاء، وهو خلاصة تجربة في تدريس هذه المادة.
وامتدت هذه الصحبة بينه وبين اللغة العربية - ولا تزال – وأثمرت ما نقرؤه من هذه المقالات الكثيرة المتواصلة التي يوالي نشرها في الصحافة، وما يذيعه في قنوات السماع والمشاهدة عن مكانة العربية، وأهميتها، وخصائصها، وضرورة نشرها، والحفاظ على سلامتها، وحمايتها من اللحن والضعف، ومزاحمة اللغات واللهجات. وأقدر فيه هذا الإخلاص وهذه الحماسة التي تتجدد مع الأيام.