فتحت خزانة ملابسه، تأملت بمرارة تلك القطع الغالية المرصوصة بدقة متناهية وجمال فوق بعضها البعض ورائحة أنفاسه وعطوره تفوح بين طياتها، فتذكرت شقاوته عندما يصر على شراء ماركة معينة أو لعبة جديدة، وكيف أنها تعارضه ثم لا تلبث أن تضعف أمام قبلاته الحارة على وجنتيها وهو يحتضن يديها بكفيه ويقبلهما بلباقة ووجه البريئ بين عينيها فتلبي رغبته بسعادة.
كان مؤدباً خلوقاً لطيفاً باراً بها رغم تدليلها له، رقيقاً مع الجميع وبالأخص مع أخواته.
سقط من رف الخزانة العلوي عندما مدت يدها إليه البوم صور كان يحتفظ به. فتناثرت الصور وبعثرت الذكريات حولها هو لوحده وهو مع أخواته وهو بين أحضانها بابتسامته العذبة والعائلة كامله يتوسطها والد حنون مثالي يفترشون بساط سعادة منقوش بالضحكات والقهقهات بأماكن عدة ودول كثيرة قصدوها للاستجمام والترويح كل عام بمكان جديد وحلة جديدة تحمل طابع البلد وصور ترسم ثقافته.
تغير محمد فجأة فلم يعد ذلك الطير المغرد بصوته بأركان البيت الصغير ووقع خطواته السريعة ومداعباته، بل مال للعزلة والتهرب من الجلسات العائلية بلا مبررات، فتركوه لأنه لا يغادر غرفته، وهذا ما يشعرهم بأمان بين جدران غرفته الدافئة لا بد أنها فترة لن تطول ويعود لطبيعته.
ابتلعت ريقها المر فلا طعام بالجوف يحلي ريقها أو يسند جسدها الهزيل بعد رحيل الحبيب، أيام مضت وسريره لم يعمه الفوضى ولم تتبعثر أقلامه وأوراقه كالعادة ثم تقوم بترتيبها بمتعة قبل عودته من المدرسة، لم تسمع صوته وهو يطلب كالعادة شايه المفضل بالنعناع.
لم يمت محمد بحادث سير فتتلقى به العزاء ويخف حزنها عليه ولم يقع بين يديها مريضاً فتفقد الأمل بشفائه.
كل الأمر صدمة لن تصحو من هول وقعتها بالنفس إلا بمفارقتها لهذه الحياة التي سرقت منها فرحتها وأحب فلذات كبدها واسطة العقد وبلسم روحها، الرجل الوحيد بعد والده بالبيت محمد.
لم يعد للحياة بعينيها ألوان ولا طعم ولا نكهة بعدما سمعت صوته الذي غاب وظهر فجأة يقول بصوت مخنوق:
أماه أنا انضممت للجهاد وسألقاك إن شاء الله بالجنة، أي جهاد تقصد انتحاريااااا
وقبل أن تسقط مغشياً عليها يضيع صوته وسط سحابة من الذهول والرعب والألم، تجاوز السابعة عشرة من عمره لكنه ما يزال بعينيها ذلك الطفل المدلل الصغير.
أين هو، ماذا يراد به، وما مصيره ومن غرر به عبر شاشة محموله مخترقاً جدران لم تكن منيعة كما ظنوا.
من ستقتل يا محمد! من هو عدوك هل ستقتل رفيقاً لك سار لهدفك نفسه! وقد يكون برحلتك نفسها ومن بلدك نفسه.
تلك العقول الهشة والقلوب الطرية والأجساد المفعمة بالنشاط والاندفاع تحتاج لرقابة ووعي وتوجيه قبل أن يكون في كل بيت قصة حزن جديدة اسمها محمد.