يسيرُ في الشوارع والأزقة، حافي القدمين، ثيابه رثّة، أجعد الشعر، جاحظ العينين، قصير القامة، دميم الخِلقة، لا يهتمّ لأمور بيته يلتفّ الناس حوله في الطرقات وتحت ظلّ الأشجار ويطْرِقُ عقولهم بأسئلته البدهية مثل: ما العدالة، ما الحق، ما الفضيلة، ما الخير؟.. الخ
يُشعلُ الدّهشة في أولئك التلاميذ وكأنّه كلّما سار في طريق كانت آثار خطواته استفهامات وتعجبٍ والناس تلاحقه وتتعجب من تلك الآثار الغريبة الفريدة لذلك الرجل وتتساءل لماذا آثار تلك الخطوات فقط لسقراط دون غيره من رجال أثينا؟!
لكن حالة الرجل المتجولِ وصاحبِ آثار خطوات الاستفهام والتعجب لم تدم طويلا وكادت أن تُمحى آثارها لولا تلميذه النابه الاستقراطي و(السّقراطي)/ أفلاطون الذي دوّنها في جمهوريته..
بعد خسارة أثينا في حرْبِها الطويلة
(البلوبونيزيّة) تكوّنت حكومة إسبارطة في أثينا وترأسها
(كيرتايس) أحد التلاميذ الذين كانوا يلتفون حول سقراط في أثينا. لم يعجبْ أهل أثينا سقراط؛ إذ اتهموه بإفساد أخلاق الشباب وبث الأفكار الغريبة على عقولهم، قُدّم للمحاكمة ذلك السبعينيّ الدميم وأُدين بتلك التّهم.
قبل مشهد الختام، كريتو يرشي السجّان ويقول لصديقه سقراط:
- هيا لنهرب خارج أثينا؟
يردّ سقراط بهدوء:
علمتكم أن تطيعوا القوانين فلا تخترقوها ويجب أن نطيعها!
في الختام تجرّع سمّ (الشّكران) وقال الجلاد: امشِ يا سقراط..
نهض ومشى الهوينا لخطواتٍ؛ حتى انتهى السمّ لبقية أجزاء جسده وسقط ومات -عام 399 قبل الميلاد- بعد أن تجرّع
(السمّ العبقري) كما يراه الشاعر جاسم الصحيّح!
هكذا عنون واستلهم جاسم الصحيح قصيدته السقراطية الباذخة ووسمها: بالسمّ العبقري
ولنعتِ ذلك السمّ بالعبقريةِ دلالته العميقة والمفتوحةِ؛ إذ إن المتأمل في ذلك النعت ومشهد الختام لموت سقراط؛ يستنتج بأن الشاعر نعت السمّ بالعبقرية كناية عن رفض سقراط الهروب مع كريتو وقبوله تجرع سم (الشوكران) ولا يقبل سقراط إلا ما كان فيه حكمة وفائدة وقد يصل (للعبقرية) المجازيّة كما رآها جاسم حتى لو وصل الأمر على حساب موته. يقول الشاعر:
سقراط فجر الوعي..فاهتُف باسمهِ
واقرأ حكاية عبقريّةِ سمّهِ
يستفتحُ الشاعر قصيدته -السّقراطية- بسقراط ويؤكّدُ على أن ذلك الفيلسوف اليوناني العظيم فجر للوعي الإنساني؛ إذ على يديه بدأ الوعي والتفكير في ذاتِ الإنسان ومعايير الأخلاق ويصف الكاتب الروماني شيشرون دور سقراط بقوله: (لقد أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض) أي أنه انتقل من التفكير في الطبيعة والكون الذي كان سائداً إلى التفكير في ذات الإنسان وعلاقته بالأشياء والمعايير الأخلاقية. ويدعونا للهتاف باسمه ولقراءة حكايةِ عبقريّتهِ، ولا تزال البشرية تهتف باسمه وتقرأ حكاية عبقريَتهِ.
وإذا الحكايةُ توجّتك بنشوةٍ..
فاشكُر مع العنقودِ عاصرَ كرْمهِ..
السمّ علّمك (الطريقةَ)، فانطلِق..
في السّالكين على طريقةِ عِلمهِ..
إذا حكاية ذلك الفيلسوف العظيم سقراط وفلسفته أدهشتك وتوجتك بنشوة معرفةِ: الخير والحقّ والجمال والأخلاق وأطرقت أبواب الأسئلة المفتوحة؛ فاسلك طريق ونهج ذلك العقل الفلسفي الحرّ المتسائل فهو الطريق الذي مهّد للبشرية الاكتشاف والمعرفة.
السمّ ليس سوى كتابِ تمرّدٍ..
والفلسفاتُ تخرّجت من كُمّهِ..
السمّ شيخُ المرشدين إلى الهدى..
ما انفكّ يفشل في هدايةِ قومهِ..
سُقراط لم يكن سوى شخصٍ متمرّدٍ في نظرِ أهلِ أثينا؛ ولكن تمرّده (الجميل) له أثر عظيم في التاريخ الفلسفي والفكري للبشريّة الذي أصلهُ قد خرج من تلك الأحاديثِ والاستفهامات التي كان يزرعها في عقول التلاميذ ويرميها في طرقات أثينا وتارة تكون كأنها آثار لخطواته -السقراطية- فيلاحقه التلاميذ.
يشيرُ ويلمح الشاعر في قوله: ما انفكّ يفشلُ في هدايةِ قومهِ.. إلى أنّ كلّ عصرٍ فيه حكاية تمرّدٍ تشبه حكاية سقراط؛ فكل إنسان يأتِ بفكر جديد يجابه بالرفض والشجب ويخفقُ في هداية قومهِ وأن هذا الأمر أزليّ، والتاريخ لا يزال يسجل هذه القصص التي لا تنتهي التي كان سقراط أحد ضحاياها.
شيخٌ تبتّل للسؤالِ فلمْ يجِدْ
في الأرْضِ أقدسَ من شريعةِ حكمهِ
ما انفكّ يحلمُ بالحقيقةِ آثماً
من فرْطِ ماهو مارقٌ في حلمهِ
لا بدّ من إثمٍ إذن.. فحقيقةُ ال
إنسان تبدأُ من حقيقة إثمهِ..
يستمرّ الشاعر في عزفهِ الوصفيّ الفريد لحياة سقراط؛ إذ كان السؤال هو شريعته المقدسة ومنهاجه الذي اتخذهُ لتوليد الأفكار لدى تلاميذه. يشير الشاعر بأنّ ما قد يرتكبه الإنسان من
(فعل جديد)؛ كي يبحث عن الحقيقة قد يكون آثما من وجهة نظر أخيه الإنسان الآخر الذي تعوّد النظر للأمور بنظرة اعتيادية صرفة، وغالبا يكون ذلك الفعل الجديد) -الإثم- قد تكون هي الحقيقة الجديدة المكتشفة ولا يؤمنُ بها أصحاب الفكر التقليدي والاعتيادي إلاّ لاحقاً.
ما لدفءُ يسْري في صحيفةِ كاتبٍ..
إلّا الذّنوب تبخّرت من لحمهِ..
والفنّ حيث الآدميّة ترتدي..
ثوباً على قدرِ الجمالِ وحجمهِ..
هنا يلمح الشاعر بأن الأفكار القوية والصادمة والجديدة التي يضعها أي كاتب جريء متسائل في صحيفته تكون دافئة؛ كأنها نتاج غليانِ التفكيرِ الداخلي الحرّ المنطلق في عقله، وأن الفنّ إنسانيّ هويته ومهمتهُ الأزلية بث الجمالِ في هذا الكون الفسيح.
كُن شيخَ ذاتك كي تكون مقدّسًا..
لا شيخ غيرك يحتويك بختمهِ..
وابصُم على دنياك بصمة مُخرجٍ..
حُرّ توزّع في مشاهدِ (فلمهِ)..
يقول سقراط: (اعرف نفسك) وهنا شاعرُنا في سقراطيّتهِ يقول: (كن شيخ ذاتك..)؛ لكلّ إنسان طبيعته الفريدة وخصائصه وموهبته التي تميزه عن الآخر ويجب أن يستنكهَ ويكتشف الإنسان تلك الموهبة التي أودعها الله عز وجل فيه وأن ينميها حتى تكبر ويكون له من خلالها بصمة مؤثرة في هذه الحياة، ولا أحد يستطيع أن يساعدك على اكتشافها إذا لم أنت تساعد نفسك فأنت أعلم ما بنفسك وما تحب وما تكره وليس ذلك الشيخ أو المرشد.
حياة الأشخاصِ ما هي إلّا كفيلم سينمائي فالأفلامُ السينمائيّة تتنوع فهناك الفيلم العادي الذي لم يترك بصمة خالدة في السينما العالمية وفي نفوس الناس وآخر وشم في ذاكرة السينما العالمية أجمل رسم خالد لا يمكن أن يمحى من ذاكرتها كذلك هي حياة الأشخاص تتنوع فمنهم من ترك إرثا عظيما كصديقنا: سقراط ومنهم من مضى وقضى نحبه ولا نعرف عنه شيئا ولله حكمته في تنوع وتفاضل الأشخاص في الأثر الذي يتركونه في هذه الحياة.
واربأْ بوعيك أن يفيق وصيدهُ..
سمكٌ تطافرَ من بحيرةِ نومهِ..
لمْ يعرفِ التّاريخ شرّ حراسةٍ..
من أن يكون المرء حارس وهْمهِ
كُن شيخ ذاتك في الحياة..
ولا تدعْ سُقراط ثانيةً يموتُ بسمّهِ..
هُنا ينتقلُ الشّاعرُ للوعي ويؤكدُ أن النوم ليس إلاّ حالة من حالات الوعي المتغيرة عن حالة الإنسان حال استيقاظه؛ وكأنه يشيرُ بأن حالة وعي الإنسانِ العميقة في منامه أفضل وأوسع خيالا من حالته أثناء استيقاظه؛ ولذا نفهمُ السّبَبَ الذي جَعَلَ الشاعرَ يطلب عدم الإفاقة من بحيرة الأحلام والأفكار والخيالات الخصبة وما النوم إلا إعادة تنشيط للفكر والدماغ. ثمّ يعرّج شاعرنا إلى الوهم الذي يسيطرُ على عقلِ الإنسان ويمنعه من فعل الأشياء العظيمة في هذا الحياة وحقّا ((لم يعرِف التّاريخ شرّ حراسةٍ من أن يكون المرء حارس وهمهِ)) كما قال في سُقراطيّته.
يؤكدُ الشاعر مرّة أخرى أن يكون المرء شيخاً لذاته في الحياة وأن يستخلص العبر من حياة سقراط بألا يقبل الموت بسهولة كما فعل ذلك الفيلسوف اليوناني العظيم.
وخذِ الكتاب بقوّةٍ وكأنّهُ..
حربٌ تزجّ العقل خارج سلمهِ..
فالمبدعون بنو الشكوك إذا هم ُ..
انتسبوا ويعترفُ اليقينُ بعقمهِ..
يؤكد شاعرنا دعوته مرة أخرى بأن يأخذ المرء نهج التفكير الفلسفي والعقل الحرّ المتسائل كما فعل سقراط، دون تردد حتى وإن كلّف الأمر دخول العقل في حرب الأفكار؛ لأن ذلك مؤداه إلى الشكّ (النبيل) -كما وصفه لاحقا في قصيدته -فكلّ مبدعٍ في هذه الحياة منتسبٌ لبني الشكوك فلولا ذلك الانتساب الرائع، لما خرجت معظم الإنجازات الإنسانية الخالدة العظيمة كما أن اليقين والإجابات الجاهزة لم تكن أبدا رفيقاً لأولئك المبدعين؛ بل وعقم عن إنجابهم.
مُذ نام حرفٌ في حضانةِ صخرةٍ..
نومَ الرّضيعِ على سواعدِ أمّهِ..
ما اخضرّ بستانُ الحياةِ بمبدعٍ..
لم ينبت الشكّ النّبيلُ بعظمهِ..
فخذُ الكتاب ملغّمًا حدّ الرّدى..
وجعل حياتكَ أن تموتَ بلغمهِ..
منذُ بدء عصرِ التاريخ وتحديدا منذ أن نقش ونامت حروف ورسوم الإنسان على الحجر كالنوم العميق للرضيع بين ذراعي أمهِ، لم يظهر في التاريخ مبدع لم ينبت الشك النبيل بعظمهِ أي ذلك الشكّ الذي يؤدي إلى اكتشاف الحقائق وإظهارها وخوض الأفكار الجديدة واستلهامها وكل ما فيه خير ومنفعة للإنسانية.
في نهاية القصيدة ثمّة وجه شبه بينها وبين المشهد الختامي لموتِ سقراط.
قال ذات مرّة: (لن أرفضَ فلسفتي إلى أن ألفظ النفس الأخير)؛ إذ ن سقراط آمن بأفكارهِ حتى الموت، وهكذا يجب على الإنسان أن يؤمن بمبادئ الفكر حتى وإن كانت على حساب موته. أبدع جاسم في سُقراطيّتهِ الباذخة الفاخرة المدهشة وخطّ دستورا ذهبيًّا خالدا للمبدعين و تستحق أن تعلّق على كعبةِ الفكر في تاريخ أدبنا العربيّ المعاصر؛ إذ تحملُ معان ودلائل مفتوحة وتتوالد منها الأسئلة تماما كما كان يولّدُ سقراط الأسئلة لدى تلاميذه وما هذه القراءة التأمليّة العابرة إلا محاولة لفهمِها.