لقد بذل الفلاسفة جهودًا جبارة طيلة قرون طويلة في رجِّ لبن التاريخ الرائب، بل الرائب جدًا أمامهم، ثم إستخراج زبدته بعد ذلك، ودراسة تلك الزبدة، وهي فحوى التاريخ البشري..
إن الغاية المشتركة بينهم جميعًا تقريبًا، هي إخراج تلك الزبد؛ أي العلل والقوانين، والتمييز بينها باختلاف الأمم، بهدف الوصول إلى السمات الكبرى الخاصة بكل أمة يتناولونها أولا، ثم السمات الأكبر، ذات الصبغة المشتركة الأوسع بين الأمم والشعوب والدول والمجتمعات.
اجتهدوا كثيرًا في ذلك الفرز والتمييز والتأمل والاستخلاص، ومن خلال كل ذلك تمكنوا إلى الخروج بنتائج باهرة، سنسلط الضوء على أبرزها.
فها هو فولتير، يؤطر –كما يقول الدكتور الربيعي في كتابه فلسفة التاريخ- الدور الذي يلعبه «المثل الأعلى» في حياة الأمة ومسيرة التاريخ. وعمل فلاسفة آخرون لمعرفة حدود العلل الأخلاقية؛ للوقوف على تفسيرات للأحداث الطارئة، خاصة البارزة منها.
وهم أثناء ذلك، وفي كل ذلك، لا ينفكون أبدًا عن ربط الإنسان بها، ومسؤوليته المباشرة في حصولها. وقد جزم –حسب فهمي- رايموند ويليامز، في كتابه (الثقافة والمجتمع) أن الفلاسفة بذلك الربط الواقعي المحسوس؛ أي بربط تلك الأحداث بالإنسان، يقطعون حبل الربط الآخر، أي الربط الميتافيزيقي بالسماء، معززين من فكرتي حرية الإرادة ومسؤولية الإنسان عن أفعاله.. وبالتالي مسؤوليته عن دوره في صناعة تاريخ البشرية.
وأتفقُ معه في تعزيز أولئك الفلاسفة لحرية الإرادة المرتبطة بمسؤولية الإنسان؛ وأتفق معه أيضاً في أن بعضهم أراد من إبراز دور الإنسان في تلك الأحداث تغييبَ الدور السماويّ أو لنقل (الإيماني) بشكل أوسع؛ ولكني أختلف معه تمامًا في تعميمه، فالفكر الفلسفي ليس على درجة واحدة، ومن الفلاسفة من كان مؤمناً بترتيب خالقنا وربنا الموجد المدبر، بل إن غالبهم كان كذلك في ذلك، أي في ترتيب وتدبير الخالق أو المهندس العظيم للأحداث الدائرة في فلك التاريخ، كما وضحت في مقدمة هذه المقالات.
تُعَرَّفُ حرية الإرادة في معاجم الفلسفة على أنها قدرة المرء على اتخاذ القرار, وبخاصة في القضايا المصيرية, أو على الاختيار بين مختلف البدائل, أو العمل في بعض الحالات من غير أن تقيّد إرادته عوائق طبيعية أو اجتماعية أو غيبية.
ومن هنا فحرية الإرادة هي نقيض «الحتمية» التي تقول إن أفعال المرء هي ثمرة عوامل سابقة لا سلطة له عليها.
وهي أيضًا -بهذا المفهوم- نقيض «الجبرية» أي الإيمان بالقضاء والقدر بشكل يرفض قدرة المرء على الاختيار وفعل ما يريد، فكل شيء عند الجبرية قضاء وقدر فقط.
والقائلون بحرية الإرادة يبنون موقفهم على أساس من الاعتقاد السائد في مختلف المجتمعات بأن الناس مسؤولون عن أعمالهم الشخصية، وهو الإعتقاد الذي تُبنى عليه جميع مفاهيم القانون والثواب والعقاب.
بينما تُعتبر «الوجودية» أكثر الفلسفات الحديثة تشديداً على حرية المرء ومسؤوليته عن أعماله، ولذلك سميت (وجودية) لأن الإنسان عند الوجوديين كسارتر وألبير كامو، هو الذي يوجد ويخلق ماهيته، فماهيته عند الوجوديين لاحقة، وليست سابقة له كما يرى المؤمنون بالقدر الإلهي.
مع ضرورة الانتباه إلى وجود موقف وجودي آخر، يؤمن بالخالق؛ ولكنه أيضًا يرى أن ذلك لا يعارض حرية الإرادة، وبالتالي يتفق مع الوجودية السارترية في أن وجود الإنسان سابق لماهيته، ومن أبرز أصحاب هذا الموقف الوجودي المسيحي المؤمن كيركيغارد ومارسيل وغيرهما، كما أشرنا في المقالة الأولى.
وموقفهم هذا يذهب بذهني إلى موضوع (الجبر والقدر) في العقيدة الإسلامية، فموقف «الوجودية المؤمنة» قريب من موقف أهل السنة والجماعة، فرغم اختلافي مع أهل السنة عقليًا في بعض المسائل، إلا أن توازنهم في هذه النقطة أعجبني وأقنعني -إلى حدٍ ما- منذ سنواتي الأولى، حين كنتُ طالباً في أقوى معاهد الفكر الوهابي في نجد، وهو معهد إمام الدعوة العلمي بالرياض، حيث تناقشنا طويلا مع أساتذة العقيدة حول ذلك الموضوع، الذي درسته في السنة الثانية من المرحلة الثانوية.
والخلاصة هي أن أهل السنة وسط بين الجبرية والقدرية في موضوع القضاء والقدر، فالجبرية يبالغون في موضوع القدر، فيسلبون العبد حريته في السلوكيات واختياراتها، فهو عندهم مُجبر على أفعاله وأقواله، وليس له فيها اختيارية ولا مشيئة، فهو مثل الآلة المبرمجة.
والقدرية: يبالغون أيضًا في قدرة العبد وحريته ومشيئته، ويتجاهلون إرادة الله وتقديراته، فالإنسان عندهم هو الذي يخلق فعلَ نفسه، فوجوده سابق لماهيته، وليس للتدخل الإلهي والأقدار أيّ دور واضح في هذا عند غالبهم.
أما أهل السنة والجماعة -رغم اختلافي معهم في مسائل عديدة- فقد وقفوا موقفاً متوازنًا بين الفريقين في نظري، يشابه موقف كثير من الفلاسفة المؤمنين بخالق الكون وتدخله في شؤون الحياة والإنسان، فهم لا يبالغون في إثبات مشيئة الله وقدرته إلى درجة نفي حرية الإرادة الإنسانية بالكامل، ولا يبالغون في إثبات تلك الحرية إلى درجة تتجاهل الله وتدبيره. بل يقولون؛ أي يقول السنة: الإنسان يختار سلوكياته وأقواله وأفعاله؛ ولكنه لا يخرج بهذا عن الإرادة الإلهية والأقدار، فقد علم الله أحواله وما سيفعله، ولكنه أعطاه العقل والاختيار.
إن هذه النقطة مهمة جداً قبل أي شيء في موضوعنا (فلسفة التاريخ) وفي غيره من الموضوعات الفلسفية الكبرى المشابهة، كما أشرتُ في المقالات السابقة، ولقد رجعتُ إلى التفصيل فيها؛ لأن سياق الحديث اقتضى ذلك.
وبناء على فهمها نعود لموقف (عمانويل كانط) الذي ربط بينها، أي بين «حرية الإرادة» والقوانين العامة للطبيعة، حيث قرر أن التاريخ ينطلق من فكرة التقدم، ساعيًا لتوضيح العلاقة بين حرية الإرادة والنظام الذي يطبع السلوك الإنساني. فالجميع يعمل وفق قوانين الطبيعة، أفرادًا وأممًا، أما الأفراد فتظهر عندهم حرية الإرادة -في مداها الواسع- من خلال العلاقات الذاتية وأنساقها. وأما الأمم، فخضوعها لقوانين الطبيعة أوسع.
والخلاصة عنده هي أن الطبيعة ونواميسها مسيطرة، ومهما حاول البعض الإفلات من قبضتها، فليس لهم مناص عن العمل وفق قوانينها وأحكامها. وهم -أي الأفراد- لا يمكن أن يُسيّروا حياتهم إلا بخطط تدبيرية بشكل أو بآخر، ولكنهم لا يخضعون لكل ما في تلك الخطط من جزئيات.. وبالتالي وبناء على ما سبق: لا يمكن إخضاع التاريخ لخطة واضحة دقيقة.
نتوقف هنا الآن، وسنختم هذا الموضوع بالمقالة القادمة الأخيرة، بمشيئة المولى المدبّر.