(9- شَرُّ التاريخ ما يُضحِك!)
سترى من العجيب في كلِّ ذلك الذي تولَّى نشره (د. كمال الصليبي) أن حدود (إسرائيل) تقف عند الحدود السياسيَّة الراهنة بين السعوديَّة واليَمَن، وكأنَّ هذه الحدود كانت موجودةً منذ أيَّام (بني إسرائيل) الأوّلين! فتأويلات الرجل تتأرجح في هذه المناطق داخل الحدود السعوديَّة جنوبًا، يكاد لا يتخطَّاها. والسبب واضح، وهو أنه إنما كان يعتمد على (المعجم الجغرافي للبلاد العربيَّة السعوديَّة)، الذي أُعِدّ بإشراف الشيخ (حَمَد الجاسر)؛ وما صَدَّق أنْ وقعَ بين يديه. وعليه بنى استقراءه من الألف إلى الياء، ولا يبدو أنه يعرف من حقائق الأماكن التي يتناولها بالتأويل سواه. عدا أنه في كتابه الآخَر (خفايا التوراة)، ولمَّا أعياه العثور على بعض الأسماء في (عسير)، أخذ يفتِّش عنها في (اليَمَن).(1)
أجل، لقد قَدَّم له ذلك المعجم موسوعة فسيفسائيَّة هائلة من الأسماء يستطيع من خلالها أن يُبحِر بين الحروف، ليتأوَّل كلّ شيء؛ فما من كلمة وردت في (التوراة)- لا أسماء الأماكن فقط- عَدِم لها نظيرًا في المعجم، وربما أكثر من نظير. حتى أسماء الكهنة، وخدم المعابد، والمغنِّين، والبوّابين، وعبيد سليمان، تحوَّلوا بين يديه إلى أماكن في جنوب شِبه الجزيرة العربيَّة.
لم يَقُم بزيارة ما يصف من مَواطِن- رغم الادّعاء الكبير- وإلَّا فإن للقارئ أن يسأل: لِمَ ، إذن، ذَكَرَ أسماء لا وجود لها على الأرض أصلًا، وإنما لعلَّه قرأها مصحَّفة في المعجم أو مغلوطة؟ ولِمَ وَصَفَ أماكن بأوصاف غير حقيقيَّة؛ فصار منزلٌ متواضعٌ لديه قريةً كاملة، على سبيل المثال؟ أما كان عليه، قبل هذه المغامرة التأويليَّة الكُبرَى أن يتحقَّق من طبيعة الأماكن التي يتطرّق إليها، ومن أسمائها، وتواريخ نشوئها. ذلك ما لم يفعل حين ألَّفَ كتابه سنة 1984، ولم يفعله بعدئذٍ، خلال ربع قرنٍ من السنين، إلى أن توفّاه الله، في سبتمبر سنة 2011. فعلامَ يدلُّ ذلك الإهمال؟ أ يدلُّ على التحقيق، والبحث الجادّ عن الحقّ؟ أم هي المتاجرة التاريخيَّة، عِلْميَّةً وإعلاميَّةً وسياسيَّة؟! أ تراه رضي عن البحث والتحقيق بالضجَّة الإعلاميَّة، وبالشهرة التي حقَّقتها كتبه الغرائبيَّة؛ بما انطوت عليه من أبعاد دِينيَّة وسياسيَّة عالميَّة. بل إنه، لو شئنا التدقيق، لم يَقُم ببحثٍ جغرافيٍّ تاريخيٍّ، كما ينبغي لهذا الضرب من البحوث أن يكون، على الإطلاق، إنما هي الافتراضات، والتهويمات، وتقليب الحروف، فكًّا وتركيبًا، وهو راتع في بيروت، مبتغيًا جعل (الشام) (يَمَنًا)، بل (فلسطين ومِصْر ولبنان وسوريَّة والأردن والعراق) كلّها محشورة في منطقة أو اثنتين، جنوب غرب الجزيرة العربيَّة، هما: (جازان) و(عسير). لسان مجاهدته تلك: لقد أخطأ شعب الله المختار في ادِّعاءاته التاريخيَّة الشاميَّة؛ لأن (بني إسرائيل) كانوا عشيرة من العرب البائدة كانت تعيش في جزيرة العرب! وهو ما لم يُثبته، لا هو ولا غيره، ولم يَرِد عنه ما يُثبته قطّ في أيَّة وثيقةٍ تاريخيَّة أو غير تاريخيَّة.
ربما يقول قائل: وهاهنا مربطُ فَرَسٍ دِينيٍّ، لا تقوى تمويهاتُ (الصليبي) على إخفائه، ولا نفيُه اللفظيُّ في مقدّمات كتبه على تعميته. مغزى ذلك الفَرَس، ولا غَبَشَ في مغزاه الباطن/ الظاهر: لِيُضرَب المسلمون باليهود، هناك في جنوب الجزيرة العربيَّة، ولتَخْل الأرض المقدَّسة في (فلسطين) للصليبيّين؛ فلا تاريخ لليهود ولا للمسلمين هنا بل هناك! والحقّ أن هذا اتّهام لا يصدُق على (كمال الصليبي)، مهما اختلفنا معه منهجيًّا. بدليل ما جاء في كتابه (البحث عن يسوع)، الذي لا يدلّ على نزوعٍ دِينيٍّ أو إديولوجيٍّ مُغرضٍ وراء أطروحته. ليس ذلك، إذن، ما يبدو أنه أُتي من قِبَله المؤلِّف، بمقدار ما أُتي من الهوس الهرمنيوطيقي الذي بلغَ به مبلغه، فأنساه أن التاريخ ليس بلوحةٍ سورياليَّةٍ في نهاية المآل، قابلةٍ لتعدّد القراءات بالمطلق، بل هو عِلْم، وهو حقائق المكان والزمان في المكان والزمان.
ليس التاريخ بلوحةٍ سورياليَّةٍ، ولا بفيلمٍ من الخيال التاريخي، نشاهد فيه (يوسف) وأباه- حسب الإخراج (الصليبي)- يَسْرَحان غنمهما في (المجاردة)! وقد صُوِّرت (شمران) على أنها: (السامرة)، عاصمة مملكة (إسرائيل)! على الرغم من أن شمران اسم جَدٍّ لقبيلة معروفة، هو: (شمران بن يزيد بن حرب بن علة بن جلد بن مذحج). وهو، إلى ذلك، جَدٌّ متأخِّرٌ نسبيًّا، لا يصلح لتلك البطولة التاريخيَّة العتيقة جِدًّا. وهو، في كلّ حال، اسم إنسان، لا اسم مكان، كما زعم الصليبي، ذاهبًا إلى أن (شمران) اسم مدينة بُنيت على هضبةٍ كانت لشخصٍ اسمه (شمر)، اشتُريت منه وأُقيمت عليها مدينة سُمِّيت (السامرة أو شمران).(2) يصمِّم هذه (الديكورات) لمسرح الأحداث في فيلمه المبتكر لسببٍ مكشوف؛ هو أنْ لا استقامة لافتراضاته دون ذلك التخيُّل المجنَّح، الذي هو والكذب سواء. أمَّا (أورشليم- القدس)، فصدِّق أو لا تصدِّق أنها بكلّ بساطةٍ: (آل شريم- بالنماص)! وهو يظنّ هاهنا أن لا أحد يعرف (آل شريم) سواه، وأن لا أحد سيُنكر عليه تسويق اسمهم على أنه اسم مكان أيضًا، كاسم شمران من قَبل. فأيُّ استخفافٍ بالعقول والتاريخ بعد هذا؟! فما دامت في الاسم حروف (الراء والشين واللام والياء والميم) فهو: (أورشليم)، (ولا بُدّ)! وهذا يعني أن جَدَّ (آل شريم)- وهم فخذٌ صغيرٌ من قبيلة، متأخِّر النشوء والتسمية- كان هناك منذ فجر التاريخ؛ فهو من (بني إسرائيل) من (العرب البائدة)، وعشيرته، منذ ذلك الفجر إلى اليوم، ظلَّت تُسَمَّى (آل شريم)! لقد تأبَّدوا، ما شاء الله تبارك الله!، في المكان نفسه، منذ ما قبل نزول (التوراة) بين ظهرانيهم، على (موسى العسيري، عليه السلام)! أي أنهم ما برحوا هناك منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام، خالدين مخلَّدين خلود السروات! كانوا فخذًا، وظلوا فخذًا، وما زالوا فخذًا، لم يزيدوا ولم ينقصوا، ولم يرحلوا، ولم يتزحزحوا، ولم يتغيَّروا، ولم يتبدَّلوا! والدليل: (راء، شين، لام، ياء، ميم)!
من وجهٍ آخر في خوارق (آل شريم)- بحسب الإخراج (الصليبي)- أنهم، مع استمرارهم باسمهم التاريخي هذا على مرّ العصور، استمرُّوا محتكرين مدينة (أورشليم القدس) الحقيقيَّة، التي تعود إلى اسم جَدِّهم المرحوم (شريم)! ولفرط دهائهم- الخارق لكلّ التواريخ والحقائق والنواميس- مَحَوا الذاكرة البشريَّة عن بَكرة أبيها وجَدِّها، عِبريَّة وعربيَّة وغير عِبريَّة وعربيَّة، بما في ذلك ذاكرتهم هم، فاستطاعوا بذلك أن يتكتَّموا طيلة السنين والقرون على هذا السرِّ الخطير، الذي لم يطمثه قبل (الصليبي) إنسٌ ولا جان! وإنهم لفي (أورشليم النماص)- بل إنهم لفي أنفسهم؛ فهم أورشليم نفسها، لا فرق هاهنا بين المكان والمكين- إذ كشف غطاءهم الصليبي أخيرًا وعرَّى لعبتهم الماكرة في نهايات القرن العشرين! فسبحان مَن يُمهل ولا يُهمل.. وشَرُّ التاريخ ما يُضحِك..
وإنه ليزعم- من حصافته الاحتجاجيَّة- أن الجامعين لأسفار (التوراة) والمترجمين والمحقّقين في بلاد (بابل) بعد السبي، ولبُعد الزمن واختلاف البيئة لم تكن لديهم المعرفة الجغرافيَّة بالبيئة التي وُضعت فيها نصوص التوراة!(3) أ فيُعقل هذا؟ أ يُعقل أن يجهل هؤلاء الكتبة أين كانت أرض أولئك المسبيّين؟ أ يُسلِّم بهذا عاقل، ولاسيما حين يعلم أن الجامعين والمحقّقين والمترجمين هم من هؤلاء المسبيّين أنفسهم، أو من نسلهم، أو من أتباع ديانتهم، والمنتمين إلى تاريخهم. ثمّ بأيّ خيالٍ خرافيٍّ يسبح في سحاب التنظير يُتصوَّر غياب أيّ معلومةٍ عن ذلك الحدث التاريخي العظيم من تدمير (نوبخذنصر) مملكة (بني إسرائيل) العظيمة، وعن مكانه ومكانها الذي كانا فيه؟ أ هي مملكة عظيمة فحسب؟ بل هي الأعظم تاريخيًّا، حسب وصف الكتابَين المقدّسين: التوراة والقرآن. أ وترى كان الفاصل الزمني بين ذلك الحدث التاريخي المفصلي وبين جمع التوراة طويلًا جدًّا إلى درجةٍ انطمست بسببها الأخبار عن مكان هؤلاء، وعن تاريخ مملكتهم، وعن علاقاتهم بمملكة مِصْر وغير مملكة مِصْر؟! بل ليس هذا ما حدث من آفة النسيان المطبق الذي لم يسبق له مثيل ولم يلحقه مثيل فحسب، بل حدث الغلط أيضًا بنسبة ذلك التاريخ إلى بلدان أخرى بعيدة ومواطن أخرى نائية.
كلّ هذا لا يُعقل عند التأمّل، ولا يستقيم القول بوقوعه، مهما بلغ استخفافنا بالقدماء، وغالينا في تصوُّر الجهل عنهم والغفلة فيهم، ونعتناهم بالبدائيَّة في أدواتهم المعرفيَّة والتاريخيَّة. [للنقاش بقية].
** ** **
(1) انظر: الفصل الثامن، الخاص بموسى، ((2006)، خفايا التوراة وأسرار شعب إسرائيل، (بيروت: دار الساقي)، 211- 000).
(2) انظر: (1997)، التواراة جاءت من جزيرة العرب، ترجمة: عفيف الرزّاز (بيروت: مؤسّسة الأبحاث العربيّة)، 201.
(3) انظر: (1991)، حروب داود، (عمّان: دار الشروق)، 14.