هناك حالات من النوستالجيا تعتري البشر عندما يغادرون أوطانهم لفترات طويلة، فتجعلهم يشعرون بالحنين إلى كل ما فيها من إيجابيات وسلبيات، مقارنة بما يعيشونه في ثقافة المجتمع الذي انتقلوا إليه. وقد تتعدد أساليب ذلك الحنين، بدءاً باشتهاء الأطعمة التي اعتادوا عليها في بلدانهم، وليس انتهاء بمحاولات تربية الصغار وفقاً لتلك الثقافة القديمة، إن كان إليها من سبيل للوالدين أو المجتمع الصَّغير من الجاليات ذات الثقافة الواحدة في بلدان الغربة.
ومن رأى القرى الصينية المنتشرة في كثير من بلدان العالم، التي توجد بها جاليات صينية، سواء كانت بجوار الصين مثل سنغافورة وماليزيا، أو كانت بعيدة عنها في القارة الأوروبيَّة أو الأمريكتين، سيعرف مدى تهافت الصينيين، الذين أصبح بعضهم يمثل الجيل الثاني أو الثالث من المهاجرين، على اقتناء التحف والرموز الصينية من تلك الأسواق، وكذلك شراء الألبسة منها، أو تناول الأطعمة في محلات فيها أو بجوارها. لكن الأمر لا يقتصر على الصينيين، بل نجد في عدد من مدن العالم أحياء (أو جيتوات) تكتظ ببضائع خاصة بجالية آسيوية محددة، مثل الجالية اليابانية أو الكورية على غرار ليتل طوكيو (Little Tokyo) في مدينة لوس أنجلوس.
وفي عدد من بلدان العالم الغربي أصبح مصطلح «بازار» مساوياً للمحلات، التي تجلب بضائع غريبة (من الشرق غالباً) غير معتادة في أسواقهم وبضائعهم المحلية، وربما ارتادها أيضاً بعض الغربيين للحصول على بضائع غريبة، أو لرخص أسعارها؛ لكنها توفر أيضاً للجاليات الآسيوية بعض ما يرغبون فيه، مما لا يوجد في أسواق تلك البلدان. وقد أصبحت في الغالب هذه المحلات ملكاً للصينيين، وربما انتشرت بأسماء صينية، أو نسبة إلى الصين، بعد تمكّن المال الصيني من الاستثمار في الغرب بطريقة مفتوحة ومتزايدة.
غير أن الاستثمارات الأكثر انتشاراً، والمستهدفة أساساً للجاليات المعنية في عدد من البلدان، هي تلك المتعلقة بالمطاعم، إذا استثنينا أكشاك الكباب التركي والشاورما (أو الجيروس اليوناني) التي تستهدف المارة في الشارع، وتتميز بسهولة تناولها ورخص أسعارها؛ فإنَّ أغلب تلك المطاعم التي ترتبط بثقافة معينة تستهدف الجالية المتعلقة بتلك الثقافة بالدرجة الأولى. ومن ضمن تلك الجاليات بالطبع الجالية العربية، التي تنتشر المطاعم الحاملة لأسماء عربية (المكتوبة غالباً بخط عربي موازٍ للخط الذي يستخدم في بلدان تواجدها). على أنها تختلف حسب البيئة التي توجد فيها، إِذْ تتكيف غالباً مع الرغبات العامة للمستهلكين في تلك البلدان، أو تبعاً للمواد الغذائية المرغوبة أو للفئات التي ترتادها (إن كانت من الطلبة أو العمال أو رجال الأعمال أو الدبلوماسيين).
هذا كله في الجانب الإيجابي، أما في الجانب السلبي، فإنَّ هناك نماذج ليست قليلة في بلدان المهجر، تنظر إلى ثقافة البلد الذي تعيش فيه بدونية أو كراهية. وبالطبع يوجد في كل الجاليات، لكن يهمنا ما يتعلق بالجالية العربية. فمن العرب من يعيش ثلاثين أو أربعين سنة في الغرب، ومع ذلك دائماً يشير إلى البشر الذين يعيش بينهم بأنهم الآخر، ولا يندمج معهم ولا يعد نفسه جزءاً من مكونات تلك الثقافة.
وقد قرأت لأحدهم في بدايات الربيع العربي قولاً بأنه كان يَتمَّنى أن يقود إلى طريق غير طريق الحضارة الغربية الفاسدة التي لا تحترم حتى القيم التي قامت عليها. مثلما نقرأ لبعض الإسلاميين الذين يفرون من بلادهم، ليعيشوا في حرية، ثم يطالبون بأن تكون تلك المساحة الحرة مثل بلده الذي فرّ منه. هل رأيتم هراء أكثر خنفشارية من هذا التفكير؟ إذا لم يكن يرغب فيها، فلماذا انتقل إليها؟